هناك كتاب يصعب أن يمر يوم دون أن يجدهم القارئ، ومن هؤلاء الكاتب الكبير أحمد رجب، وهو من قلائل استمروا فى علاقة مع القارئ أكثر من أربعين عاماً، وأصبحت «نص كلمة»، للقراء مرادفا للصحيفة الصباحية، لأن أحمد رجب يوفر لهم شيئين، ابتسامة، وفش غل. ويكفى للتدليل على خطورة موقع أحمد رجب أنه عندما وقعت أزمة توقف على أثرها على الكتابة فى أخبار اليوم، أعلن عدد من القراء مقاطعتهم للأسبوعية، وأظن أنهم فعلوا، وفشلت محاولات تقليد أو استنساخ أفكار الكاتب الكبير.
أحمد رجب وصل إلى هذه المكانة عبر سنوات طويلة كان فيها صوتا للأغلبية الصامتة من العمال والموظفين والطبقة الوسطى، لأنه كان يعبر باختصار عن آرائهم، انتقد البيروقراطية والفشخرة والادعاء والنفاق بكتابة ساخرة لا تهدف لإثارة الضحك، بل تنتقد بشكل لاذع ومركز كل ما يضايقهم وينغص حياتهم.
ولد أحمد رجب فى 20 نوفمبر 1928 فى الإسكندرية حصل على ليسانس الحقوق، وأثناء دراسته فى الكلية أصدر مع آخرين مجلة «أخبار الجامعة»، كانت طريقه للتعرف على مصطفى وعلى أمين، عمل فى مكتب «أخبار اليوم» فى الإسكندرية، ثم انتقل إلى القاهرة، تولى سكرتارية التحرير واكتشف على ومصطفى أمين مواهبه، ويروى كثيراً من الحكايات عن أخطاء كانت تقع أو مواقف يعلن فيها سياسيون غضبهم من الأخبار فيعلن على أمين فصل سكرتير التحرير أحمد رجب شكلاً، لكنه بقى وظلت أخبار اليوم له مثل الماء للسمك لم يغادرها لينتشر، أو يعيد إنتاج نفسه.
وعلى أمين هو الذى اكتشف مواهب أحمد رجب فى الكتابة الساخرة وشجعه على التركيز، «احترم وقت القارئ اكتب باختصار وتركيز، لا وقت عند القارئ للت والعجن»، درس على أمين أنتج «نص كلمة» أحد أهم الأعمدة الصحفية وأكثرها تأثيراً وإسعادا للقراء. استمرت من عام 1968 حتى اليوم.
وعن رحلته فى أخبار اليوم يقول «قضيت نصف عمرى فى الغرفة رقم 53، أول من اتخذها مكتباً هو توفيق الحكيم، كنت أحملق فى أجواء الغرفة 53 وأتساءل: كيف لم أحظ من هذه الغرفة بإشعاعات الفكر والفن التى تركها توفيق الحكيم.. فأفكر مثله وأبدع مثله؟ وتبين لى أن السبب أننى غيرت موضع مكتبى من حيث كان يجلس توفيق الحكيم ونقلته إلى حيث كان مربط حمار الحكيم».
هذا التواضع أمام الكبار، يقابله اعتزاز بالنفس يصل إلى حد الامتناع عن الكتابة إذا تم حذف كلمة أو جملة مثلما جرى معه قبل ثلاثة أعوام.
أحمد رجب ظل طوال هذه السنين ناظر مدرسة فن السخرية، التى لا تقف عند الإفيهات، ولا تهدف لتسلية القارئ أو نفاقه، لكنها تقدم نقداً سياسياً واجمتاعياً وهو النوع الذى أجاده كل من أحمد رجب ومحمود السعدنى كل بطريقته، وتنتمى أكثر إلى مدرسة عبد الله النديم وبيرم التونسى، ومحمد عفيفى حيث يوظف الكاتب أفكاره وثقافته، ويمزجها برأى عام ليصل إلى أقصى درجات النقد، ولهذا تحتفظ الذاكرة الجماعية بعدد قليل من كتاب تكون السخرية وسيلة للنقد، وليست غاية وعلى رأس هؤلاء أحمد رجب، الذى بقى طوال أربعين عاماً أحد العلامات التى تعرف بها الأخبار وأخبار اليوم، خاب عشرات ممن حاولوا تقليده، أو سرقته، لأنه كان وحده يحمل العلامة التجارية لطريقة أحمد رجب فى السخرية.
واخترع عدداً من الشخصيات والنماذج السلبية، التى ماتزال تعيش معنا. ويضرب بها الناس المثل إذا أرادوا التعبير عن أوضاع مقلوبة المنافق عباس العرسة فى الحكومة والسياسة، وعبد الروتين للبيروقراطية، وعبده مشتاق لانتظار المنصب بأى ثمن، ولا يمكن أن تنسى ديالوجات عزيز بيه المليونير المنعزل مع الكحيت المدعى، كمبورة السياسى الفاسد، وجنجح البرلمانى الجاهل الغبى، وعقدة واضع الامتحانات وقاهر التلاميذ..
الإخلاص هو السمة الأساسية لدى الكاتب الكبير أحمد رجب الذى بقى يطل على قرائه يوميا طوال أكثر من أربعين سنة. فى كتابه صور مقلوبة الصادر عام 1971، تألق أحمد رجب فى تقديم النقد الاجتماعى، سخر فيها من أفلام السينما التى عرفت بأفلام المقاولات، من خلال شخصية «خاميس فجلة» المخرج جا-موس بيه والبيروقراطية والنفاق والكرة والإذاعة والفهلوة والأدب والامتحانات، قدم فيه نقداً للكثير من الأوضاع الاجتماعية وهذه الظواهر لاتزال قائمة حتى الآن ويمكن أن تصلح للانتقاد وأصدر المزيد من الكتب الساخرة والممتعة، وسواء كانت نص كلمة أو الـ«فهامة» وفلاح كفر الهنادوة والحب هى الأكثر قراءة، لأنه عبر فيها دائماً بإيجاز شديد وسخرية عميقة.
كان عباس العرسة رمز النفاق الذى يراه أحمد رجب أكبر أعداء الإنسان ويقول: ولو كانت الحيوانات فى حدائق الحيوان تنافق الإداريين فيها لقرأنا فى حركة الترقيات أن القرد رقى إلى نمر، والنمر إلى أسد والأرنب إلى ذئب.
وعندما وقعت أزمة أحمد رجب وامتنع عن الكتابة فى أخبار اليوم، وصفته بأنه: «يصعب الاستغناء عنه، أو استبداله»، رفض المساس بحق قارئه، أو حذف كلمة أو أكثر من مقاله، وهو أكبر من مجرد عمود أو نص كلمة، بل رمز لطريقة فى الكتابة، يصعب تكرارها.
أحمد رجب
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة