مصر التى فى خاطرى، هى التى فى خاطر كل من تعامل معها فى الماضى والحاضر أو من يفكر فى التعامل معها فى المستقبل.. ليست شرطًا أن يعرفها شعب فى أمريكا أو أوروبا فهم غالبًا لا يهتمون بالسياسة ولا يعنيهم منها إلا علاقتها بحياتهم العامة والضرائب ومستوى المعيشة.. لكن النخبة المعنية بالعالم لابد أن يمر عقلها على مصر التى عهدناها فى أساطيرنا «أما للدنيا» حتى لو لم تكن منذ قديم الأزل أما للمصريين.
والفرنسيون الذين عرفوا مصر كثيرًا فى كتاب «وصف مصر» يمكن لأحفادهم الذين قرأوا هذا الكتاب أن يصفوا مصر حديثًا أو يصفوها وهى فى حدث مهم تتأسس عليه ردود أفعال الناس.. ونحن مقتنعون أيضًا بكلام مفكرنا العبقرى الراحل جمال حمدان عن عبقرية مصر فى الزمان والمكان.. وإذا كان كلامنا ينصب فى الرياضة فإن متعة الوصف الدقيق لها يمكن أن تتحقق فى مباريات الدربى بين الأهلى والزمالك.. لكن الذهن المصرى الآن يتفاعل مع ما يمكن تخيله فى يوم مشهود (14 نوفمبر القادم) عندما تجرى أحداث المباراة المرتقبة الملتهبة بين مصر والجزائر لحسم بطاقة التأهل لنهائيات كأس العالم 2010. اعتقد أن الاستثناء موجود فى هذا الحدث بحيث يستحيل ألا يعرف واحد فقط من بين 80 مليون مصرى أن مصر لن تهتم مثلاً بمؤتمر معارضة التوريث الذى دعا إليه د.أيمن نور وحدد له نفس التاريخ وهو بالتأكيد لا يعرف موعد المباراة، والمحتمل أنه لا يعرف أيضًا أن جموع المصريين لن تهتم إلا بمعارضة وصول الجزائر إلى نهائى المونديال.. هناك ملايين من المصريين يمثلون القطاع الأكبر من الشعب لاتعنيهم كرة القدم إلا من بعيد، لكنهم فى هذا اليوم سوف يعيشون مع الكرويين حلمًا ضخمًا أو مشروعًا قوميًا مطلوبا إنجازه فى تسعين دقيقة مع غياب المشاريع القومية منذ أن انتهى الصراع الحربى بين مصر وإسرائيل.
ومن واقع خبرة المعايشة مع الأحداث الكروية الكبيرة بالذات، تختلف رؤية المصريين للأشياء عن رؤيتها فى مناسبات أخرى.. فلن يسأل الآباء والأمهات عن ذهاب أبنائهم إلى المدارس يوم السبت، وإذا ذهبوا فلن يتكرر التحذير اليومى من أنفلونزا الخنازير.
لن يكون للحكومة رأى فى شىء ولا اجتماعات ولا قرارات ولا مواعيد ولن تنتقدها المعارضة لأن الواجب القومى يحتم عليهما قيادة الشعب إلى إنجاز وطنى, لأن الشعب هو الذى سيلعب مانحاً التوكيل لـ11 لاعبًا وهى فرصة لأن يمتد ذوبان الانتماءات الرياضية إلى ذوبان فى الانتماءات الحزبية والعقائدية والسياسية.. وفرصة أن نعيش يومًا من أيام السلام الاجتماعى خلال انتصارات أكتوبر.
سوف يستهلك المصريون أضخم بضاعة كلام فى كرة القدم وفى تاريخ معارك الكرامة بين الكرة المصرية والجزائرية، سوف يتهكمون ويحذرون ويطلقون النكات والشائعات عن خليفة الأخضر بللومى الذى فقأ عين طبيب مصرى فى معركة قديمة باستاد القاهرة، وهل سينجو المصريون من غضب لاعبى الجزائر عندما يفقدون تذكرة التأهل.
ويمكن بسهولة أن تتخيل مشهد الشوارع المصرية إذا فرحت أو إذا صدمتها نهاية سيئة.. فهى مغلقة أو خالية.. سوف تعبر فى كل الأحوال عن آثار وبواقى معركة حدثت.. سوف تشم رائحة الانفعالات خارجة من نوافذ البيوت وربما تقرأ عن حالات إغماء ووفاة.. سوف يدخل حسن شحاتة التاريخ أو يخرج منه مهما صنع من أمجاد فى سنواته الماضية.. نحن أبناء هذه اللحظة ونحن العرب نحب بعضنا البعض لكن لا نحب أن يتفوق أحدنا على الآخر.
تصوروا لو أن لاعبًا فى المنتخب تخيل هذا اليوم فى وصف مصر.. هل يستطيع أن يحتفظ بجهازه العصبى على حالته الطبيعية، هل تستوعب وسائل الإعلام هذا الخطر.. وهل هى تملك القدرة والكفاءة على إدارة عملية تجهيز الرأى العام لكل الاحتمالات.
أتمنى أن نستقبل الخبر الساعة العاشرة مساءً يوم 14 نوفمبر فى حدود فهمنا الواعى بأن كرة القدم فعلاً مجنونة ولا يجب أن تنقل لنا عدوى الجنون وهى رسالة إعلامية فى المقام الأول.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة