د. بليغ حمدى

أنفلونزا الفكر الجامعى

الأربعاء، 21 أكتوبر 2009 06:50 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
من الله علينا ـ بجامعاتنا المصرية العريقة البعيدة عن التصنيف العالمى للجامعات ذات الجودة ـ بنعمة نحمد الله عليها، وندعوه بألا يحرمنا إياها، وهى وجود عيادة طبية يدعى عميد كل كلية بالجامعات الإقليمية أنها مزودة ومجهزة بأفضل وأجود وأحدث وأكمل الأدوات والمواد الطبية.

وبالتأكيد تشرف كل عيادة طبية بتلك الكليات بطبيب أو طبيبة أكاد أجزم بأنه لا ولم يدخل غرفة عمليات منذ تعيينه بالعيادة الجامعية، وطبعاً هذا الطبيب منوط به الكشف عن حالات الاشتباه بفيروس أنفلونزا الخنازير، مستخدماً فى ذلك أدواته الطبية التى تتطابق والمثل الشعبى السائر "حمارتك العارجة تغنيك عن سؤال اللئيم".

ووسط تلك المخاوف المرضية السائدة حول أنفلونزا الخنازير استوقفنى طالب جامعى يدرس بالفرقة الأولى، ووجه لى سؤالاً بريئاً، وأقسم بالله أن السؤال برىء مثل صاحبه، وكان: لماذا لا تتوقف الدراسة بالجامعة احترازاً لتقليل خطر الإصابة بفيروس أنفلونزا الخنازير؟

فقلت له إن عدم تعليق الدراسة بالجامعة له فوائد جمة وكثيرة، ومتنوعة عند البعض، فمنها أن بعض الطلاب يعيشون آلاف قصص الحب والغرام مع زميلاتهم بالفرقة الدراسية، بدلاً من هوس البحث عن صداقات وهمية عبر الفيس بوك وخلافه، كما أن فى حالة إغلاق الدراسة بالجامعة ستصبح الفرصة سانحة لأصحاب الفرق والجماعات الهدامة لاستقطاب عدد كبير من الطلاب الذين يعانون ثمة إحباطات عاطفية وسياسية ومجتمعية واقتصادية وأسرية، فيبثون فيهم أفكارهم الهدامة والتكفيرية للمجتمع وفئاته المختلفة.

كما أن البعض من الطلاب لم ولن يجدوا متنفساً لهم سوى الجلوس على المقاهى العامة أو فى المقاهى الإليكترونية (سايبر) التى تعد خطوة أولى نحو الإدمان وضعف الاتصال المباشر مع الآخرين.

لكن هذا الطالب أدهشنى حينما ذكر لى أن جميع الفوائد السابقة لا تنطبق عليه، ولا يطمح لتحقيقها، فهو طالب يحب قاعات الدرس، ويتنفس رائحتها، ويعشق الكتاب لأنه مصدر للعلم والمعرفة والحقيقة. وحينما سألته عن الموضوعات التى يدرسها فى مادة الحضارة الإسلامية فاجأنى بأنه يدرس كتابا للدكتور (فلان) وأشار إلى مذكرة صغيرة بيده، وهنا أيقنت أن هذا الطالب وزملاءه بالدرس الجامعى فى خطر حقيقى أشرس من هؤلاء الذين تحدثت عنهم سابقاً.

فمن الطبيعى أن تصبح المادة التدريسية فى أيدى الطلاب الجامعيين مادة علمية إبداعية، تقدم لهم خلاصة البحث العلمى فى حقل علمى معين، وطاقة منهجية وتربوية تحرض فيهم القدرات والطاقات الذهنية العقلية ليستوعبوا تلك الخلاصة أولاً، وليبدعوا ما يتممها ثانياً.

وعلى ذلك فمهمة المادة الدراسية تكمن فى تكوين الشخصية الطلابية التى يجب أن تتسم بعدة سمات، أبرزها العقلية النقدية المبدعة. لكن هذا بالطبع لا يحدث فى أغلب جامعاتنا غير المصنفة عالمياً طبقاً لتصنيف جامعة شنغهاى، حيث يسهم الكتاب الجامعى الأوحد فى هيمنة العقل، أى جعل الطلاب ذوى بعد تفكيرى واحد. وإذا أردت أن تعرف سبب تصدع التعليم العالى فى مصر فاسأل عن مصدر المعرفة لدى هؤلاء الطلاب الذى لا يخرج عن مجموعة من الصحائف التى هى فى الأصل جزء من رسالة الدكتوراه الخاصة بأستاذ المادة.

وإذا كان فيروس أنفلونزا الخنازير الراهن يتحور ويتخذ أشكالاً وصوراً وألواناً صفراء وبرتقالية وحمراء، فإن الكتاب الجامعى أيضاً ينافسه فى التمحور والتشكل، بدءاً من صورة الكتاب التقليدية، ومروراً بأشكال المذكرة، والملزمة، وكراسة المراجعة النهائية، انتهاءً بالنشرات العلمية وأوراق العمل.

وثمة أمر ذو أهمية خاصة يدعنا نلح على ضرورة تنويع وتطوير شكل المادة العلمية، وعدم اقتصارها على صورة الكتاب الجامعى ذى الصفحات المحدودة، ذلك هو أن العمل والأداء العلمى ذاته يقتضى وجود رؤية متسعة للمعرفة، وخلق طبيعة جدلية تجاوزية تنطلق من أن الحقيقة العلمية لا يمكن أن يختزلها كتاب واحد، مهما كان مهماً وعميقاً.

إن الاهتمام بالاقتصار على كتاب واحد للطلاب بالجامعة فى علم معين لهو جدير أن يخلق طلاباً ملفقين مبتذلين، ومفتقدين للتماسك المنطقى والعمق الفكرى المنهجى.والتجربة الشخصية لى ولكثيرين من زملاء الدراسة والعمل الأكاديمى تبرهن على أن اقتصار الأستاذ الجامعى على كتاب واحد محدد لهو قتل لدوره النقدى التنويرى الذى كان من الأحرى أن يمارسه، ولهو ـ أيضاً ـ تدمير لطاقات الطلاب المتجددة، فكيف يوجه الطلاب أسئلة تتعلق بصفحات هى فكر الأستاذ نفسه، وبعد ذلك يتساءلون لماذا لا ننافس الجامعات العالمية المبدعة؟!

ولعل أدق وصف قرأته بخصوص هذا الموضوع أن الطالب والأستاذ فى ظل هيمنة الكتاب الواحد يشبهان حصانين كليهما يسيران إلى الأمام فقط، ولا يريان الجانبين والخلف. ويا حسرتاه على طالب ساذج يصدق أستاذه حينما يؤكد له على أن هذه المذكرة هى عصارة الفكر فى علم معين.

وإذا كان فيروس أنفلونزا الخنازير غير رحيم بنا وبأولادنا وبطلابنا، فعلى أساتذة الجامعات غير المصنفة عالمياً أن يتسموا بالرحمة، ليس هذا فقط، بل وبتطعيم عقول طلابهم بأمصال متعددة للمعرفة لمقاومة وضعية التخلف الراهنة، وذلك حتى لا يذهب مثل هذا الطالب بعيداً عن قاعات الدرس والمكتبة، ولا يجد أمامه سوى مصادقة فتاة دون هدف، أو الانتماء إلى جماعات هدامة، أو الجلوس على مقهى لمتابعة المنضمين حديثاً لمعسكر المنتخب فى مباراته المؤجلة.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة