اعتاد الدبلوماسيون "التزام الصمت" وعدم الإفصاح عن آرائهم، فيما يتعلق بقضايا الرأى العام بالدول التى يعملون بها. وذلك خوفا من أن يتسبب ذلك الرأى فى خلق أزمة قد تحسب على البلاد التى يمثلوها، لذلك عندما يقرر السفير البريطانى بالقاهرة دومينيك أزكويث، أن يبدى رأيه فى قضية شديدة الحساسية مثل "النقاب" على مدونته الخاصة على موقع السفارة البريطانية، فهذا أمر أقل ما يوصف به أنه جرأة إيجابية محمودة وتفاعل ثقافى خلاق.
رؤية أزكويث تمثل عينا إضافية لنا لنرى بها ما نختلف حوله بشدة ونحن نأخذ خطوة إلى الوراء فتتسع الرؤية، وتخفت حدة الاحتقان، ونملك القدرة على التحليل والمقارنة.
كتب أزكويث رأيه ببساطة وجرأة، وآثر أن يبتعد عن عادة الدبلوماسيين المفضلة فى التنحى جانبا فيما يخص قضايا الرأى العام فى الدول التى يعملون بها، رغم أهمية أن يتفاعل الدبلوماسى الأجنبى مع تلك القضايا كجزء من مهام عمله.
وسبق لـ"أزكويث" نشر مقالات عبرت عن آرائه فى عدد من القضايا الشائكة، مثل قضية "مقتل مروة الشربينى"، التى اعتبرها نموذجا كشف أن "وسائل الإعلام الإخبارية تصنع مزيدا من الأموال ببيع قصص الكراهية والعنف أكثر من قصص الصداقة والسلام".
ما كتبه أزكويث عن النقاب يعد أمرا مثيرا للاهتمام لذلك ارتأينا أن ننقله لكم بتفاصيله كما ورد على مدونته: "لقد ذكرنى النقاش الذى ثار بعد تعليقات شيخ الأزهر حول النقاب بنقاش ثار فى دين آخر منذ 50 عاما.
فى عام 1959 اتخذ بابا الكاثوليك الروم جون الثالث والعشرون، خطوة هامة فى تحقيق الانفتاح بالكنيسة الكاثوليكية. وسار خليفته قدما فى هذا الأمر فيما سمى بـ"مجلس الفاتيكان الثانى". لقد كان دور الأشخاص الذين ليسوا رجال دين، ولكنهم مصلون ورعون "عاديون" قبل ذلك أحيانا ما يوصف بأنه الصلاة والصيام والطاعة. ومع التغييرات المذكورة أصبح هؤلاء مشاركين فى القداس الدينى بدلا من كونهم تابعين عن بعد. أصبح القسيس يواجههم أثناء الطقوس الدينية بدلا من إعطائهم ظهره. وأصبحت الطقوس الدينية تجرى باللغة التى يستخدمونها كل يوم ويفهمونها بدلا من اللغة اللاتينية. استخدم البعض مصطلحا رياضيا لو صف الأثر وهو تحويل المصلين العاديين من متفرجين إلى لاعبين.
وكطفل كاثوليكى فى ذلك الوقت، كان أحد الأشياء التى لاحظتها أيضا أن والدتى لم تعد تدخل الكنيسة مرتدية حجابا على رأسها. وفعلت عمتى، التى كان ورعها أسطوريا فى أسرتى والتى أعطاها البابا مسبحة ما زلت أحتفظ بها، نفس الشىء.
لا أحد يجادل بأن ارتداء النقاب أمر غير إسلامى، ولكن فقط ما إذا كان الإسلام يلزم بارتدائه أم لا، ما إذا كان ارتداؤه جزءا رئيسيا فى الدين أم تقليدا. لست مندهشا من قوة وجهات النظر على كلا جانبى النقاش. منذ وقت قريب فى فرنسا وبريطانيا عندما ناقش القادة علنا موضوع ارتداء النقاب كانت لدى جالياتنا المسلمة ردود أفعال مختلطة. بل إن البعض استاء من إثارة الموضوع متخيلين أن هناك هجوم آخر على الإسلام. أتذكر كم كان صعبا على بعض الكاثوليك منذ خمسين عاما قبول التغييرات – على الرموز والتقاليد.
لقد خرجت التغييرات التى أدخلها مجلس الفاتيكان الثانى على تقاليد قائمة منذ وقت طويل. رحب بعض الكاثوليك بالتغييرات، وتشكك البعض، وآخرون صدموا ورأوا أن تلك التغييرات بها انشقاق عن العقيدة ورفضوها. فيما يتعلق بارتداء الحجاب فى الكنيسة انتهى الأمر إلى أننا أدركنا أنه كان مزيجا من التقاليد والثقافة. أصبح كل هذا الآن جزءا من الماضى. لقد مضت النقاشات إلى الأمام قدما - إلى ما هو أبعد بكثير من الحجاب، ولكن العواقب كانت عميقة. لقد كان تأثير مجلس الفاتيكان الثانى تحقيق التواصل مع الكاثوليك – وأعتقد مع غير الكاثوليك. وبدا أن الكنيسة الكاثوليكية أصبحت أقل تشددا.
ولكن ما لم يتغير قط، وهو أمر صحيح تماما، هو معتقداتنا الدينية الرئيسية. أن للعاطفة دورا هاما فى الدين، ويمكن أن تكون قوة مؤثرة نحو الخير. أعتقد أن بعض من يقرأون هذا الكلام سوف يرفضون أى محاولة لاستخلاص الدروس بين الأديان. ولكن هناك بعض الاستنتاجات الموجزة التى أعتقد أنه من الممكن استخلاصها. ليس خروجا عن التقوى اقتراح نقاش عقلانى حول الأمور الدينية يركز على جوهر ديننا وليس رموزه. أى شىء يزيد قدرة المرء على التواصل، سواء مع من هم من ديننا أو من أديان أخرى يجب أن يكون جيدا. إلا أن الرموز ستظل هامة للبعض بسبب التقاليد والثقافة. سوف يستغرق الأمر وقتا حتى يتآلف هؤلاء مع التغييرات. إن التغيير صعب دائما. ولكن أهم شىء، مرة أخرى، هو أن يكون النقاش مبنيا على العقل والحكمة، كما شجع القرآن على ذلك تكرارا".
إلى هنا انتهى مقال أزكويث حول النقاب، لكنه يفتح بابا جديدا من النقاش حول تطور العادات الدينية وكيف يمكن أن تختلط بفهم كثير من الناس لصحيح العقيدة، وكيف أن هذه العادات متغيرة دائما وتحتاج منا أن نفتح أعيننا على مسار التاريخ لنفهم ما يجرى فى الواقع من حولنا.
شجاعة دبلوماسية نادرة.. النص الكامل لمقال سفير بريطانيا عن النقاب
الثلاثاء، 20 أكتوبر 2009 11:58 ص