المصرى بطبعه وبحكم تكوينه وتاريخه وجغرافية المكان الذى يعيش فيه لا يحب الهجرة ولا يطيق الغربة، ويعشق الارتباط بالمكان والالتصاق به والحياة فى بيوت متراصة ومتلاصقة وشوارع دافئة وضيقة، وهو كفراش المحكمة فى مسرحية "شاهد ما شافش حاجة" لعادل إمام يترك الشقة كلها ويعيش فى غرفة واحدة مع أمه وإخوته السبعة وأولاده الثمانية.. ولولا التكدس السكانى لما اضطر للخروج إلى المدن الجديدة وأطراف القاهرة.. ولما اضطر وهو المعجون دائما بالحنين للمكان إلى الهجرة أو قل السفر للعمل بالخارج.
فالمصرى فى الواقع لا يمكن أن يهاجر بالمعنى الحرفى للكلمة، وبالشكل المعهود فى العالم كله، ولا يمكن أن يقطع صلته تماما بأهله وعشيرته وأصدقائه القدامى.. وهو حريص حتى وهو يعيش ويستقر فى الخارج على شراء قطعة أرض أو شقة أو شاليه فيس أى بقعة من بلده.. وقد يغلقها بالسنوات الطوال، لكنه يعرف فى قرارة نفسه، أنه سيعود لا محالة، مهما طالت به سنوات الاغتراب أو الإقامة خارج الحدود.
والمصرى فى الخارج له سمات وعادات وطقوس تختلف باختلاف البلد الذى يقيم فيه.. فالمصريون فى الخليج يختلفون عن المصريين الذين يهاجرون أو يعيشون فى أمريكا أو كندا أو أوروبا.. فالمصرى فى الخليج هدفه الأول والأخير هو جمع المال.. وثقافته استهلاكية بحتة.
وستصاب بدرجة عالية من الدهشة إذا قمت بزيارة مصرى قريب أو صديق لك، ويعيش فى إحدى دول الخليج فى منزله فى ذلك البلد ورأيت بنفسك كم "الكراتين" التى يختزنها فى بيته، تحت السرير، أو فوق الدولاب، بل وفى كل ركن من أركان شقته.. ويحرص تمام الحرص على ألا يستعملها أو يستعمل شيئا منها، ومن مشترياته خلال سنين الغربة، رغم أنها قد تطول لتشمل أجمل سنوات العمر.. ويظل يحتفظ بكل ما هو جديد وغالى الثمن ورفيع الذوق لكى يستعمله حين يعود مرة أخرى للحياة فى مصر.. ويعود أولاده وزوجته على ذلك.. فهذا الطقم "البورسلين" لن نفتحه إلا عندما نرجع إلى مصر، وهذا الفستان أو التايير أو العباءة أو البنطلون أو الحذاء أو حتى الملاءة والبطانية، أكواب الشاى، أطقم القهوة ومفارش السفرة.. كلها محفوظة ومجمدة ومكتوب عليها ممنوع اللمس أو الاقتراب حتى تنتهى رحلة الشقاء فى الغربة.
والمصرى فى الخليج غير اللبنانى أو السورى أو الفلسطينى، فهو يعيش عادة فى الأحياء الفقيرة أو على هوامش المدن، وبالقرب من الأماكن التى يسكنها السود من "البدون هوية" والمطاردون من شرطة الجوازات، والبنجال والباكستانيون والهنود.. وفى شقق محدودة الإيجار يفرشونها غالبا بأثاث مستعمل من أسواق مخصصة لهذا الغرض فى معظم المدن الخليجية، تعرف باسم "الحراج" ولها أسماء أخرى فى كل بلد خليجى، حيث يأتى المغتربون ويغادرون ويبيعون حاجياتهم وأشياءهم الثمين منها والبخس، ليستفيد منه وافدون آخرون جدد وهكذا..
وهذا بالتحديد هو الانطباع الأسوأ الذى يعرفه معظم الخليجيين عن المصريين، ولا يشاركهم فيه سوى السودانيين والصوماليين، وهذه هى الصورة التقليدية التى انطبعت فى أذهان الغالبية العظمى من العرب عنا من خلال مشاهدة الأفلام والمسلسلات المصرية التى تشوه سمعة المصريين وتصورهم على أنهم نصابون ومحتالون ولصوص وتجار مخدرات وراقصات وساقطات وحشاشون وكذابون.. فالخليجيون ينظرون إلينا بريبة وشك حتى يثبت المصرى العكس، بعد أن يكون قد تلقى من الإهانات الكثير، بسبب الخبرة السابقة فى التعامل مع مصريين أساءوا لصورة المصرى، وخاصة طبقة الحرفيين من غير المتعلمين، وبسبب ما تسرب للعقلية العربية عن الشعب المصرى من خلال الأفلام.
ولذلك قد تفاجأ كثيرا حين تعلم أن الخليجيين يعطون المصريين رواتب وأجورا متدنية بالمقارنة بأقرانهم من الشوام، حتى ولو كانوا أقل كفاءة ودرجة علمية من المصريين.. وذلك لأننا لم نعتد على تقدير أنفسنا حق قدرها، ولم نتعود على الاستمتاع بالحياة.. فالمصرى فى الخليج حريص على ارتداء الملابس الرخيصة، حتى ولو كان راتبه كبيرا، وهو يحتفظ بالملابس الجيدة، حتى يرتديها لدى عودته إلى مصر، وكأن السنوات التى يقضيها فى الخليج ليست محسوبة من عمره، والمصرى لا يسكن سوى فى الشقق رخيصة الإيجار وفى الأماكن الشعبية والعشوائية، طبعا باستثناء قلة قليلة من المصريين فى الخليج، يشذون عن تلك القاعدة، بعكس اللبنانى، أو السورى الذى يرتدى أحدث "الموضات" فى الأزياء، ويقود أفضل أنواع السيارات، ويجيد تسويق نفسه، ولا يحاول نيل رضا رؤسائه الخليجيين بالطعن فى أبناء جلدته، كما يفعل بعض المصريين فى الخليج.
وصحيح أن هذه القاعدة بدأت تنكسر مع ازدياد المهاجرين والمغتربين المصريين هربا من شبح البطالة والكساد والفساد، وخصوصا من بين الطبقات المتعلمة تعليما جيدا من أطباء ومهندسين ومدرسين، وغيرها من المهن، التى تفرض احترام أصحابها على الجميع، إلا أن كثيرا من سلوكيات المصريين فى الخارج لا تزال تحتاج إلى المكاشفة والمراجعة، وإعادة النظر والتفكير، حتى لا نهون على أنفسنا فنهون على الآخرين!.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة