يحى قلاش يكتب عن الدكتور محمد السيد سعيد: النبلاء يغادروننا

السبت، 17 أكتوبر 2009 04:25 م
يحى قلاش يكتب عن الدكتور محمد السيد سعيد: النبلاء يغادروننا قلاش ينعى محمد السيد سعيد

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ليست مصادفة أو غلوًا أن يجتمع كل من عددوا أبرز صفات د.محمد السيد سعيد فى حياته أو بعد رحيله على نبل أخلاقه ونبل سلوكه ونبل مواقفه وكذلك نبل تعبيره عن خلافه مع أشخاص أو أفكار، فدائما له وجهة نظر واشتباكات وانحيازات فكرية وسياسية وإنسانية، ولكنه كان يشعرك بأنه بلا خصوم. هو من قلة يجود بهم الزمان على مهل، تراه تشعر بالاطمئنان يتسرب إليك، تسعد لو اتفقت معه، ولا يبرحك الأمان لحظة إذا خالفته الرأى، لو صادقته كأنك ملكت كنزًا، ولو عرفته عن قرب يتملكك إحساس دائم بالاحترام والتقدير، ولو عملت بجواره فى عمل أو مهمة تندهش لكل هذه الطاقة وهذه القيمة المتوهجة فى كائن شديد الإنسانية والتواضع والحب لكل من حوله. ورغم أنه كان يملك وجهاً هادئاً شفافاً فيه مسحة من براءة آسرة، لكن داخله يحتوى على بركان من القلق والتوتر.

يمتلك قدرة خارقة على إنتاج الأفكار الخلاقة، لكنه يطلقها وكأنه يحررها من الأسر، فتخرج لتعيش بعيداً عنه بعد أن نفخ فيها من روحه وأكسبها الحياة والقدرة على التنفس والنمو.

غادرنا محمد السيد سعيد فجأة رغم مرضه الطويل، فشعرنا برحيله بأن كل النبلاء الذين سبقوه بالرحيل فى السنوات والأيام الأخيرة قد ماتوا الآن، محمد عودة، ونبيل الهلالى، وإبراهيم شكرى، وعزيز صدقى، ومراد غالب، ومحمد سيد أحمد، وكامل زهيرى، ويونان لبيب رزق، ومحمد يوسف الجندى، ورجاء النقاش، ورءوف عباس، وعبدالوهاب المسيرى، وصلاح الدين حافظ، ويوسف شاهين، وأحمد عبدالله، وحامد العويضى، ومجدى مهنا، ومحمود عوض، وأحمد ثابت، وسيد زهران، وسامى خشبة، ويوسف أبورية، وسعد زغلول فؤاد، وأحمد فؤاد سليم، وبيومى قنديل.

نعم، شعرت بأن رحيله هو إشهار بموت عصر وحلم ومشروع، فقد أخذ محمد السيد سعيد من كل هؤلاء طرف خيط كان ينسج به مشروعاً فكرياً بحجم أحلام كل من أحبوا هذا الوطن، لأنه كان يؤمن بأن المبادئ ليست بنت الأيديولوجيا مهما كانت قيمتها، لكنها بنت القيم الإنسانية العليا، وكان الوطن عشقه والمواطن البسيط وسيلته وغايته.

وقد استطاع ببساطة وعبقرية أن يعقد مصالحة بين الأكاديمى والصحفى، وبين المفكر وجماهير الناس من البسطاء، وبين ضمير المستقل وانحياز السياسى صاحب وجهة النظر، وبين الخصوصية الوطنية العاشقة ورحابة الثقافات المختلفة، وبين العقل الذى يحسب لكل أمر حساباته الدقيقة الموزونة والعاطفة التى يؤدى استبعادها فى كثير من الأحيان إلى موت الإنسان بداخلنا، بين صراحة الرأى وحدته وود وألفة تصون العلاقات وتحفظ دفء المشاعر ولا تتطوع أبدا بخسارة الأصدقاء.

عرفت محمد السيد سعيد منتصف ثمانينات القرن الماضى فى بداية تأسيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، وأستطيع أن أقول بضمير منصف، إنه إذا كان الدكتور محمود عزمى هو رائد حقوق الإنسان والحريات العامة وحرية التعبير فى مصر، فالسيد سعيد هو الذى حول هذا الفكر الطليعى أو البناء النظرى إلى ثقافة عامة، وإلى حقوق تستحق التضحية من أجلها وانتزاعها، ومن أجل هذه القضية كان اعتقاله لمدة شهر عام 1989 وتعرضه للتعذيب، بعد أن حاول زكى بدر وزير الداخلية فى هذه الفترة أن يبتر فى المهد هذا التيار الذى قاده سعيد، ووجهت إليه تهمة التوقيع على بيان حقوقى يدين اقتحام قوات الأمن مصنع الحديد والصلب وإطلاق النار على العاملين فيه أثناء إضراب عمال المصنع الشهير، وكان قد سبق كل ذلك حملة نشطة ودؤوبة، استخدم فيها كل وسائل التعبير التى تدين فلسفة العقاب الجماعى والتصفية الجسدية التى اعتمدتها وزارة الداخلية للتنكيل بالخصوم السياسيين من الجماعات الإسلامية التى كان يخالفها د.محمد فى الرأى والفكر، لكنه كان يدافع عن حقها فى التعبير والمحاكمة العادلة ورفض الإجراءات الاستثنائية.

وأتذكر كيف ثار أعضاء الجمعية العمومية للصحفيين التى ينتمى إليها، احتجاجاً على اعتقاله وكيف انتفضت مؤسسات المجتمع المدنى وكل رموز الثقافة والفكر، وأتذكر أيضا أنه تحت ضغوط هذه الاحتجاجات اتصل د.مصطفى الفقى مدير مكتب رئيس الجمهورية للمعلومات ـ فى ذلك الوقت ـ بزكى بدر ليخفف من احتقان الأزمة، ليفاجأ برد الوزير عليه بوقاحته التى اشتهر بها: "هو علشان دكتور اعتقله فى فندق خمس نجوم وأطبطب عليه". لكن فى النهاية انتصرت إرادة المثقف على بطش السلطة.

وفى كل المواقف التى كانت تتعرض فيها الحريات العامة وحرية التعبير ـ وفى المقدمة منها حرية الصحافة ـ لاعتداء أو محنة كان محمد السيد سعيد يتقدم الصفوف، هكذا وجدناه خلال مواجهة أزمة القانون 1993 لسنة 1995 الذى استهدف اغتيال حرية الصحافة، مشاركاً فى كل أعمال الجمعية العمومية للصحافة ومساهماً أساسياً فى كل الفعاليات التى ارتبطت بمواجهة هذه الأزمة.

ولا يمكن أن يسقط أبداً من الذاكرة النقابية دوره فى أعمال المؤتمر العام الرابع للصحفيين الذى عقد أعماله فى الفترة من 23 ـ 25 فبراير 2004 تحت عنوان "نحو إصلاح أوضاع الصحافة والصحفيين"، ومشاركته فى الأعمال التحضيرية له، التى سبقت ذلك بعدة شهور، عقب نجاح النقيب جلال عارف. وقاد إنجاز أول استطلاع علمى كبير وشامل شارك فيه ما يقارب ربع أعضاء الجمعية العمومية للصحفيين ينتمون لـ47 مؤسسة وإصدارًا صحفياً، وقدم قراءة تحليلية رصينة لنتائج هذا الاستطلاع، أشار فيها إلى مشاركة الزميلين د.جمال عبدالجواد وصبحى العسيلى بوحدة استطلاع الرأى بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية للأهرام فى هذا الجهد.

وأستطيع أن أدّعى أنه كان لهذا الاستطلاع ولهذه القراءة التى قدمها تأثير كبير فى مسار نجاح هذا المؤتمر المهم، والتى قادت إلى حوار حقيقى كان يجرى للمرة الأولى مع الدولة حول هموم وقضايا حقيقية عن الصحافة وأحوال الصحفيين، بعد أن عكست نتائجه الرغبة العارمة بين الصحفيين المصريين فى إصلاحات عميقة فى بنية الصحافة المصرية على كافة الأصعدة والمستويات، وكشف أن من أهم أسباب المعاناة المهنية للصحفيين هى أسلوب ممارسة رؤسائهم للسلطة داخل المؤسسات الصحفية، وأن الغالبية الساحقة من الصحفيين تريد التغيير والمشاركة فى اختيار رؤساء التحرير والتخلص من العوامل التى تؤدى إلى التسلط والفوضوية وعدم الكفاءة وغياب الرقابة، والمطالبة بتغيير أوضاع الصحفيين وتحقيق قدر أكبر من العدالة فى توزيع الأجور والرواتب، كما طالبوا بإصلاح تشريعى شامل وحق الحصول على المعلومات، وعدم تدخل الأمن أو رجال الأعمال فى شئون الصحافة، والتحذير من تعمد الخلط بين الإعلان والتحرير.

وانتهت قراءته إلى أن النقابة ملزمة بالمشاركة مع الدولة وجموع الصحفيين والمؤسسات الصحفية، بالتدخل لوضع حلول عاجلة للمشكلات المتفجرة التى كشف عنها الاستطلاع، وقال: "نحن جميعا مسئولون مسئولية مشتركة عن استعادة زمام الصحافة المصرية لموقعها القيادى فى الصحافة العربية وموقعها التاريخى فى الصحافة العالمية".

وهكذا استمرت مواقفه النقابية التى تنطلق من تقديس بلا حدود للحرية، فقد شاركنا اجتماعات الجمعية العمومية العادية فى مارس 2006 التى اكتملت لأول مرة فى تاريخ النقابة، من غير أن يكون على جدول أعمالها إجراء انتخابات، وذلك لمناقشة قضية إلغاء الحبس فى قضايا النشر، واعتماد لائحة جديدة لأجور الصحفيين، وكان فى مقدمة الذين شاركوا فى مظاهرتين احتجاجيتين أمام مجلس الشعب فى أبريل ويونيو 2006 لخروج التعديلات بإلغاء بعض مواد الحبس، وفقاً لمطالب الصحفيين، وعدم إقحام مادة "الذمة المالية" التى كانت تستهدف غل يد الصحافة عن تناول الفساد.

معارك محمد السيد سعيد فى الفكر والسياسة والدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان لا يمكن حصرها، وجميعها خرج منها منتصرًا أو زارعاً للأمل. حتى مرضه الأخير لم يثنه عن أن يغرس لنا شجرة وارفة اسمها جريدة "البديل"، أراد لها أن تثمر بعض الخير، وأن يحتمى بظلها الفقراء والكادحون. وأقل ما يمكن أن نقدمه لهذا الراحل النبيل الذى وهبنا فكره وقلقه وعذاباته وحبه لهذا الوطن، ألا تسقط تحت أى حجة هذه الشجرة التى رواها بدمه وأعطاها من روحه وعمره، وأن تعود "البديل" ليكون محمد السيد سعيد قد ذهب مرضياً كما عاش راضيا. وحرام أن نستسلم لموت النبلاء ورحيلهم لصالح القبح والفساد والتطرف وخيانة الأحلام والأوطان.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة