مدحت أنور نافع يكتب:التعليم والعقلية النقدية

الأحد، 11 أكتوبر 2009 10:26 ص
 مدحت أنور نافع يكتب:التعليم والعقلية النقدية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
استغرقتنا الدولة المدنية الحديثة بمؤسساتها الضخمة فألهتنا أبنيتها وسجلاتها عن الغرض الذى أنشئت من أجله. فها هى مصر فى القرن الحادى والعشرين صار لديها أبنية تعليمية وليس لديها تعليم، ومستشفيات ليس لها نصيب من وصفها غير لافتات أبوابها. وقد قادتنى اهتماماتى الإحصائية بتصور علاقة الارتباط بل والسببية التى تربط بين تاريخ حركة يوليو 1952 وبين ملامح التدهور فى مختلف الشئون المصرية، فوجدتها علاقة قوية ومخيفة.
وإذ يحلو للبعض أن يعدد أسماء الأعلام الذين ظفرت بهم مصر فى عهد الخمسينات والستينات، فيجب ألا يغفلوا حقيقة أن هؤلاء الأفذاذ هم نتاج مؤسسات تعليمية وصحية وتثقيفية بل وترفيهية كلها نشأت وتطورت فى العهد الملكى، وما هى إلا سنوات قليلة استطاعت خلالها تلك المؤسسات القوية أن تناضل شطحات الثوّار حتى عقمت عن تقديم المزيد من النوابغ.
فهل كان نجيب محفوظ ليحصد جائزة نوبل فى الأدب لو أنه نشأ فى حى الدويقة العشوائى بدلاً من الحارة المصرية القديمة التى أثرت وجدانه فأنتج روائع الأدب؟ وهل كان أحمد زويل ليبلغ مكانته العالمية لو أنه لم يلق تعليمه المدرسى ثم الجامعى على يد رجال تربوا فى عهد ومؤسسات ما قبل يوليو؟ أضف إلى هؤلاء قادة حركة يوليو أنفسهم، هل كانوا ليقيموا هذه التجربة الأيديولوجية (الفاشلة كما أعتقد) والمؤثرة بشدة على كثير من دول المنطقة والعالم، لو أنهم لم ينشأوا فى مؤسسات الدولة الملكية وشكّل ضمائرهم ووجدانهم تلال من الكتب والتراث الأدبى والفنى الذى كانت تزهو به هوليود الشرق فيما قبل يوليو؟ الإجابة عندى على هذه الأسئلة ربما تكون أكثر مرارة من مجرد النفى.
وبعد تلك المقدمة الضرورية أود أن أطرح رؤيتى لأزمة التعليم فى مصر ومقترحا لحل الأزمة. فالمؤسسات التعليمية المصرية هى التى تصطدم بندرة الإمكانات المادية، أما التعليم كما عرفه الأجداد وما زالت دول العالم تسبر أغواره فعادة ما يصطدم فى بلادنا بعقبة كئود وهى الجمود الفكرى وغياب العقل النقدى.
فمؤسسة الكتّاب وأعمدة الأزهر بإمكاناتهم المادية المتواضعة أخرجوا لنا روّاد العلم والأدب الأوائل، ولم يكن الحفظ والتلقين كما يزعم البعض سبباً فى تأخر الحركة التعليمية فى مصر، فالحفظ لم يزل ضرورة هامة لتكوين رصيد لغوى لدى المتعلم، ولم يحل حفظ القرآن والأحاديث دون إفراز عقلية فريدة ناقدة كتلك التى تمتع بها الدكتور طه حسين، بل على العكس كان رسوخه اللغوى وإبداعه النقدى نابعا من هذا الرصيد المحفوظ.
لن نرقى بمستوى التعليم المصرى بتتبع التجارب الدولية، كما أنه من غير المنطقى أن نعيد اختراع العجلة، كل ما فى الأمر أن الانهيار الاستثنائى يحتاج إلى حلول استثنائية ومبتكرة تنهض بها تجربة مصرية خالصة تركن إلى مزاياها النسبية التى ليس من بينها مليارات الدولارات التى تنفقها دول أوروبا على مدارسها وجامعاتها ومعاهدها البحثية. ميزة لا تتطلب منا أكثر من هدم الجمود الفكرى واللغوى فى حديث الثوابت، فلا يبقى ثابتاً غير الله وما أنزل من الذكر الحكيم، أما ما دون ذلك فهو قيد الرد والتأويل والنقد المستمر. فالتعليم بهذا المفهوم لا يتوقف على المدرسة أو الكتاب بل تمتد رسالته إلى البيت والنادى والمسجد والكنيسة والأحزاب التى تعمل جميعها فى حفز واستفزاز القدرة النقدية لدى الأطفال والشباب، فينشأ كل منهم وقد تكونت لديه أفكاره وآراؤه وقبل ذلك هويته التى لا تنازعه فيها الدولة والنظام أو حتى المؤسسة الدينية نفسها. أما مصادر العلم فقد تنوّعت وتعددت ولم يعد الأستاذ أهم ما فيها، بل الشغف والسعى مع بعض التمييز المؤسسى للنوابغ للحصول على فرصة بلوغ تلك المصادر.
• خبير بالمحاكم الاقتصادية






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة