مدينة الألف مأذنة تئن من الضجيج، تعوم فى الدخان والتراب، يقطع أمنها عواء الذئاب، تتلفظ أنفاسها الحزينة الساخنة من حر الغلاء، وفداحة الظلم، وطغيان الحاجة، ونار الطمع.
مدينة الألف مأذنة يقودها الجميع للانتحار، يقودها الطاقم التائه، الملاحون النائمون، الرعاة الغافلون، يضلها يهوذا فى الظلام، ونباح الطامعين من خلف جيحون، ويلدغها الأفاعى فى الردهات المكيفة، ويستأسد عليها أشباه الرجال فى زمان العرائس.
والمساكين الغلابة يتامى صغار مات أبوهم من قديم، رحل بابا ذات مساء، دفنوه بعد العشاء، رحل ولم يترك لنا أصدقاء، ودون أن يترك الدليل، تركنا دون عشاء، وعشنا أذلاء بلا بابا منذ بعيد بعيد.
أنا ما زلت أذكر يوم مات بابا وجاء رجل غريب وتزوج الأم قبل انقضاء العدة وبدأ يفرض الجزية على الصغار.. خرجنا فراراً نبحث عن مأوى.. كنا نراهن على المسجد، كنا نتصفح الوجوه فى صلاة الجماعة، فى يوم الجمعة، ساعة الظهيرة وعند كل ساعة، فى بهجة الأعياد المؤقتة، فى صدقات الفقراء وغيرة أولاد البلد.
لكن.. حرارة المساجد خبت لأن وقودها الدراهم وليست هناك دراهم، وروعة المساجد يعلوها غبار النفاق.. مسجد الرفاعى يعيش وحيداً فى العهد الملكى لأنه يكره الحياة الحديثة، والجامع الأزهر يسافر كل صباح وكل مساء شرقاً وغرباًَ، هرباً من العيون الزرقاء والخضراء، تخترق المآذن، هرباً من النهود والخصور تربك التقاة فى الصلاة، تأخذ قلوب الجباة.
فى المساجد تقف المنابر الحزينة كأرملة عقيمة بلا مطر لأن الكلمات الجوفاء تخاصم الحكمة، لا تخالط القلوب.. لا تنبع من نور السماء.. لا تخاطب الحضارة القديمة ولا تعانق الحضارة الحديثة.
كلمات الرضا بالعصر المملوكى، وسلطة الخليفة الأموى والجابى العثمانى.. كلمات منشورة من نشارة النشارة البالية، كلمات محشورة لتحتل الدقائق الفارغة.
سألت المنبر ذات مساء بعدما دمعت من حر الصلاة، لماذا أيها المنبر تصير الكلمات بلا فائدة، لماذا خبت جذوة القرآن فى القلوب الباردة، لماذا تفر المواعظ فوق الرؤوس، لماذا لا يقوم الكسالى للصلاة؟ لماذا لا يجيبون الدعاء؟.. لماذا لا ينهض العراة ويرتدون لباس الحضارة؟.. لماذا نأكل من أوزارنا ونشرب الذنوب فى أعماقنا؟.. لماذا يضل السفين وتتيه القافلة ويهرب الدليل؟.. لماذا يصير الضلال والفساد والهروب خياراً استراتيجيا للصغار والكبار؟.
أيها المنبر الحزين فى زمن التتار من يصنع قرار الفرار؟
لماذا نفر جميعا ونترك القطار بلا مسار؟ لماذا نرفض الخيار؟
أجابنى صمت المنبر ونهنهة البكاء: لأننا نعيش بلا قيادة منذ قرون.. العلماء يبيعون الرسالة.. يخونون الأمانة.. والقادة يعملون طباخين فى الردهات الخلفية.
يسمسر الوزراء وهم يبيعون تاريخ الأمة، ويجمعون ألبانها من ضرع مدخرات الفقراء من المصارف الصديقة المنهوبة يوم الجمعة حين الصلاة.. لأن الكبار يعيشون على وهم تجار السعادة.. لأن الساحر لا يزال يصنع التعاويذ والأحجبة، والوزير يعمل عصفورة وعضواً فى فريق الحمام الزاجل.
لأننا نأكل القرآن ونأكل بالقرآن.. لأننا نعلف من خيانتنا الكلاب.. نقلد الدواب.. نصير حينا كالذباب ونحيا فى الخيانة كالذئاب.. لأن أعتاب المنبر الطاهرة صارت مسرحا للخرافات البابلية، تسكنها القضايا الميتة، والقصص الخاوية.. لأننا دائما نخاف غدر بيبرس، وخسارة الجبن على العشاء.. لأن المنابر الصامتة الواجفة تعيش وحيدة كأرملة قعيدة، كطفل يتيم..
خرساء أيتها المنابر، خرساء أيتها المحابر، خرساء فى صخب الزحام، خرساء فى زمن الكلام، خرساء فى زمن اللصوص العظام!!
تموت القلوب كل مساء.. تصير الجسوم بلا أرواح، تصير الرؤوس بلا أدمغة.. نمثل فى كل شىء حتى الصلاة، ونخرج من مسرحية الحياة نحرك أشباح الهزيمة فوق أشلاء سكينة.. نركع للطواغيت حتى تنحنى ظهورنا، ونسجد لهم حتى تنكسر رؤوسنا.
يا شعبنا المحتضر..
لأنكم تأكلون من أوزاركم..
وتشربون من دمائكم..
وترسمون أحلامكم فوق قبور بعضكم..
تفقدون الحدائق الداخلية ولا تزرعون الحدائق الخارجية..
تعيشون فى صحراء الجهل والتخلف..
تستمتعون فى جحيم الاستبداد والتكلف.. تعتادون محنة الشقاء..
تموتون فى وادى الضلالة والجهالة والسفالة وتحسبونه درب التحضر والحياة..
- سيظل الخراب خياراً استراتيجيا!!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة