لم يتبق شىء إلا و قيل على شاشات التلفزة العربية والإسلامية وحتى العالمية, قيل بأن العالم يتآمر علينا نحن الضحايا, و قيل بأن العرب متخاذلون و أحيانا خونة, بأن أمريكا تدعم إسرائيل ابنتها الوحيدة المدللة, بأن الميت هو وحده ومن حوله من يتألمون, بأن الموت مع الجماعة رحمة, بأن أسماك القرش تنتحر انتحارا جماعيا إذا ما شعرت بالظلم.. قيل ما قيل و لكن الكل نسى أن لهذا الشهيد أو ذاك أحلام طفولة عاش لأجلها, أحلام تربى و رآها تترجم أمامه, له حبيبة أو أم أو صديقة, له رسومات أخفاها فى خزانة الملابس, له شعاع شمس كان ينير دربه فى الظلام الحالك, له فى السماء نجمة عالية يصل نورها إلى الأرض.
له ذكريات عاشها مع أصدقاء الطفولة, وفى المدرسة الابتدائية كان الأول على صفه, أما فى المدرسة الثانوية فقد كان مشاكسا لعوبا, وأيام الجامعة كانت ومازالت الأجمل, كان يتنقل بين المحاضرات والمكتبة منجزا أروع وأهم الأبحاث فى حياته، كطالب يسمو لنيل الامتياز.
فكر كثيرا فى العمل الذى سيلتحق به بعد التخرج, سيكون معلما يخرج الأجيال, طبيبا يداوى الجرحى و يخفف آلام المرضى, محاميا يدافع عن المظلوم, مهندسا زراعيا يزرع الأرض و يرى الأشجار تثمر لتأكل منها العصافير, مصورا تلفزيونيا ينقل الصورة إلى العالم ينقل معاناة و فرح و حزن, مهندسا معماريا يشيد الخراب ويجعل من الدمار مبنى شاهقا، حيث يرفرف العلم معلنا النصر.. كان كل هؤلاء أو أكثر.
كان له أيام خلوة بالنفس يصلى بها, كان يتأمل القمر ثلاث ليال فى الشهر حيث يكون بدرا, كان يتصل بصديقه المقرب ليقول له: أطل من نافذة غربتك لترى البدر, فى النجوم كان يرى درب حياة, كان يعشق تباع الشمس, قرر أن يزرع واحدة فى حديقة منزله, كان له فلسفة خاصة, كان يقول بأن تباع الشمس وحده هو الذى يعرف طريق الحرية القريبة البعيدة, كان يراها تتطلع إلى عين الشمس الأم دون أن تنزل عينيها, كان له مع الكرامة ألف قصة و مع الإيثار مئات.
كان له جار, طفل, لم يبلغ العاشرة من العمر بعد, كان ينزل لأجله إلى الحارة ليلعبا معا كرة القدم, كان يخسر دائما أمام رفيقه الصغير, كان يقول له: لنا هناك خلف الشمس بيوت أجمل من هذه وملاعب خضراء أفقها أوسع من الحارة الصغيرة هذه أو تلك, لنا وطن كبير, لنا أم واحدة أخذنا من أحضانها عنوة و لكننا لم ننس الوفاء لها, وبأننا سنعود دوما حتى لو كنا أشلاء.
واليوم توحد جسده مع الأرض, تسجى البطل وحقق ما كان يصبو إليه منذ الأبد, توحد مع الشمس, رأى درب الحرية بعينيه, تبع هو أيضا تباع الشمس, رأى الأفق الأوسع الذى لطالما بحث عنه, رأى الهلال هلالا مبتسما بوداعه, والنجوم استقبلته نجمة أخرى ليزين هو الآخر بدوره السماء, ولنراه يطل علينا كل ليلية, كان قريبا بعيدا ولكنه يظل موجودا, عشقته الأرض والسماء وكل من سكنهما.
هذا ما نسى الكل قوله و سنقوله اليوم وغدا وبعد الغد وحتى نهاية التاريخ, الآن أطلب منكم أن تفتحوا نوافذ غربتكم, إن لم تكن غربة الوطن, فلتكن غربة الذات, وسترون نجمته التى تمكث هناك, لوحوا له و قولوا: نراك تراقبنا, و نعرف بأنك تسكن السماء لتحمينا و لتكون أيضا دليلا جديدا على طريق الحرية.
أسماء صبّاح تكتب من رام الله:
لا أدرى إن كنا عقلاء أم مجانين
الخميس، 08 يناير 2009 01:00 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة