مازلت أقرأ الرسالة التى كتبها الشيخ على عبدالرازق فى صيف 1926 أثناء وجوده فى باريس لصديقه الدكتور طه حسين، فتنكشف لى صفحات رائعة من حياة المثقفين المصريين، ومن حياة مصر فى تلك الأيام التى نبكى عليها الآن، لا حنينا للماضى، فليس كل ما مضى يثير الحنين أو يستحق البكاء، ولكن أسفا على نهضة حقيقية اغتيلت وهى فى قمة عطائها ماضية فى طريق النضج والتمكن.
ولقد حدثتكم فى الحلقات الثلاث التى سبقت من هذا الحديث عن تلك المرحلة الذهبية التى كتبت فيها الرسالة، وكانت كما رآها توفيق الحكيم بحق عودة للروح، وحدثتكم عن كتاب على عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم» الذى صدر قبل شهور من تاريخ كتابة الرسالة، وعن دفاعه البطولى عن الدولة المدنية والنظام الديمقراطى، وانتصاره الساحق على الملك والشيوخ الرجعيين الذين كانوا يسعون لتنصيبه خليفة للمسلمين، وحدثتكم عن كتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى» الذى صدر فى العام الذى كتبت فيه الرسالة، بعد قليل من صدور الكتاب الأول، وفصل فيه عميد الأدب بين الدين والعلم، كما فصل على عبدالرازق بين الدين والدولة، وحدثتكم عما سبق صدور الكتابين من أحداث كبرى، وعما كان لهما من آثار ونتائج.
لقد عاقب الأزهر على عبدالرازق فسحب منه شهادة العالمية، وفصلته الحكومة من منصبه فى القضاء الشرعى، كما تعرض طه حسين لصور متوالية من الاضطهاد انتهت بإحالته للتقاعد، وكما عوقب من قبلهما منصور فهمى بسبب ما عبر عنه من آراء صريحة فى الرسالة التى حصل بها على الدكتوراة من جامعة السوربون عن «وضع المرأة فى الإسلام»، إذ منع من التدريس فى الجامعة المصرية بعد عودته من فرنسا، ولم يعد لعمله إلا بعد سنوات.
لكن القوى التى اضطهدت هؤلاء المثقفين كانت أضعف من أن تقف فى وجه النهضة التى كانت روحا جديدة انبعثت بها مصر، واستيقظت من سباتها الطويل، واندفعت لتجد لها فى حركة الزمن المتدفقة التى لم تعد تسمح بحكم الطغيان، ولا باستعباد المرأة، ولا بالخلط بين الدين والدولة، ولا بين الدين والعلم.
نعم، كان المثقفون المصريون يتعرضون للاضطهاد فى تلك المرحلة وهذا أمر طبيعى، لكنهم كانوا دائما يقاومون مؤمنين بأنهم لابد أن ينتصروا، وكانوا دائما ينتصرون.كانوا يتعرضون للاضطهاد، لأنهم تمردوا على وظيفتهم التقليدية الموروثة، وهى أن يكونوا خدما للسلطة القائمة يدافعون عنها ويزينون للناس أعمالها القبيحة، ويسخرون فى ذلك ما يجدونه من نصوص. فإن لم يجدوا النص اخترعوه ولفقوه.كانت السلطة للغزاة الذين كانوا يشترون لمصر عبيدا يحكمونها، ويأبون على المصريين أن يكون منهم رجل دولة أو حامل سلاح.
المصريون فلاحون يزرعون الأرض ويقدمون غلتها للسلطان. أو هم شيوخ يطلبون العلم فى الأزهر ويسخرون علمهم لخدمة السلطان. وقد عاشت مصر فى ظل هذا النظام ألفى عام حتى استردت حريتها، واستعادت روحها، فانفتح الطريق أمام الفلاح المصرى ليسترد أرضه، وأمام المثقف المصرى ليحتل مكانه الطليعى فى ميدان الفكر والعمل.
الوظائف والمناصب والألقاب التى كانت محجوزة للغزاة والطغاة المجلوبين من أسواق الرقيق الأبيض والأسود أصبحت حقا شرعيا مستردا لأمثال أحمد لطفى السيد، ومحمد حسين هيكل، وعبدالعزيز فهمى، ومصطفى عبدالرازق، وعلى عبدالرازق، وطه حسين، وعباس العقاد، وعبدالرازق السنهورى، ومحمد مندور.
أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد باشا كان يترجم أرسطو، ويشارك فى تأسيس حزب الأمة، ويرأس مجمع اللغة العربية، ويشارك فى تشكيل أول وفد مصرى يطالب الإنجليز بالاستقلال، ويتولى وزارة المعارف، وينتخب عضوا فى مجلس الشيوخ.
والدكتور محمد حسين هيكل باشا يكتب رواية «زينب» وهى أول رواية تظهر فى الأدب العربى، ويؤلف كتابا عن جان جاك روسو، ويدعو للإصلاح الدينى، ويحرر جريدة «السياسة»، ويرأس حزب «الأحرار الدستوريين»، ويتولى وزارة المعارف ست مرات.وعبدالعزيز فهمى باشا ينظم الشعر، ويرأس الحزب، وينتخب عضوا فى مجمع اللغة، ويتولى وزارة الحقانية.
ومصطفى عبدالرازق يدرس فى السوربون، ويحاضر فى جامعة ليون، ويدرس الفلسفة فى الجامعة المصرية، ويتولى وزارة الأوقاف، ومشيخة الأزهر.وطه حسين، والعقاد، والسنهورى، ومندور.لم تكن السياسة بالنسبة لهؤلاء المثقفين سلطة، ولم تكن فرصة للكسب الشخصى، ولكنها كانت ارتباطا بالواقع، وتجسيداً للرؤى والأفكار، لطفى السيد يبلور مفهوم «الأمة المصرية» التى لم تعد رعية عثمانية، ولم تعد جماعات دينية، وإنما أصبحت جماعة وطنية واحدة تربط بينها المصالح ولا تفرقها المذاهب والديانات، وقد تحول مفهوم لطفى السيد إلى حزب هو حزب الأمة، وهيكل يتبنى أفكار فلاسفة التنوير الفرنسيين ويبشر بها فى كتاباته ونشاطه السياسى، وطه حسين يرفع شعار «التعليم كالماء والهواء» ويصبح وزيرا للمعارف فيطبق مجانية التعليم.
هكذا بلغت السلطة سن الرشد فلم تعد مجرد قوة غاشمة، وإنما توازنت فأصبحت فكرا وعملا. ليس فقط لأن المثقفين أصبحوا يشاركون فى النشاط السياسى، بل أيضا لأن السياسيين لم يكونوا بعيدين عن النشاط الثقافى، سعد زغلول كان محررا فى «الوقائع المصرية».
وعبدالعزيز فهمى كان شاعرا. ومحمد صلاح الدين كان ناقدا مسرحيا. ومكرم عبيد كان يغنى مع محمد عبدالوهاب.يقول طه حسين فى «الأيام» متحدثا عن تأثره بدروس الأستاذ دوركيم فى جامعة السوربون: «وكان الأستاذ دوركيم قد أنفق عاما كاملا يدرس لتلاميذه مذهب الفيلسوف الفرنسى سان سيمون الذى يقوم على أن أمور الحكم الصالح المنتج الذى يحقق العدل ويكفل رقى الشعب ويتيح للإنسانية أن تتقدم إلى أمام، يجب أن تصير إلى العلماء لأنهم هم الذين يستطيعون أن يلائموا بين نتائج العلم على اختلافها وبين حاجات الناس وطاقتهم واستعدادهم للتطور والمضى فى سبيل الرقى».
إنها إذن سان سيمونية مصرية تلك التى حققتها ثورة 1919 بين العشرينيات الأولى والخمسينيات الأولى من القرن المنصرم، حتى استولى المماليك على السلطة ففقدت السلطة عقلها وعادت من جديد قوة غاشمة، وعاد المثقفون من جديد موظفين!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة