التفكير.. فريضة غائبة فى حياتنا
بشأن ما يجرى الآن فى غزة.. ليس أسهل من أن تخاطب فى الناس مشاعرهم فتغرس تحت جلودهم إما الحزن الشديد على أطفال فقدوا الأمان والمستقبل أو على رجال ونساء فقدوا الكبرياء والحياة.. وإما الغضب الهائل ضد كل من تسبب فى هذه الأزمة أو كل من ترك غزة وحدها تواجه مصيرها وتعيش موتها.. ولكن يبقى الصعب جدا فى المقابل هو أن تدعو الناس للتفكير.. أن تخاطبهم بدون اللعب على مشاعر حزن أو غضب.. والمشكلة الكبرى هى أن معظم المصريين حتى الآن.. ومعظم العرب أيضا من ورائهم.. لا يزالون يرفضون التفكير واستخدام العقل والمنطق وأصل الأشياء.. تقودهم العاطفة وحدهم فى رؤيتهم للدنيا وللحكم على مختلف الأمور.. وإذا كان من الممكن تفهم وقبول الاحتكام للعاطفة والاستناد إليها فى علاقة الرجل بالمرأة.. والإنسان بأبنائه أو أصدقائه أو زملائه.. فمن المستحيل قبول ذلك فى علاقة الإنسان بوطن.. أو قضية فيها الكثير جدا من الدماء التى تختلط بروائح الموت وصور الخوف وحكايات العذاب ومعانى القهر.. ولم تسمح لنا أبدا هذه العاطفة التى تقودنا بأن نتوقف ولو مرة ونحن مفتوحو الأعين لنفكر ونتأمل ونتمهل قبل أن نعلن رأيا أو نصدر حكما أو نتخذ موقفا.. وهو ما جعلنا نقع فى كثير من الأخطاء الفادحة والفاضحة.. والمتكررة أيضا.. ولعل أبرز هذه الأخطاء وأكبرها هو أننا حتى الآن لم نمارس ولو مرة هذه التفرقة الضرورية والواجبة بين وطن وبين أسماء تحكم وتدير فى هذا الوطن.. فالرئيس مبارك يصبح هو مصر كلها.. والرئيس بشار الأسد هو سوريا.. والشيخ حسن نصرالله هو حزب الله.. والرئيس بوش هو الولايات المتحدة.. ولم يستوقفنا فى غمرة الصخب والضجيج الأجوف الذى مارسه معظمنا بتسطيح واستخفاف شديد وغفلة غير مسبوقة بعد إلقاء الحذاء العراقى فى وجه الرئيس بوش أن الأمريكيين حين اهتموا بما جرى واستوقفهم هذا المشهد.. فإن أحدا منهم لم يتعامل مع هذا الحذاء الطائر باعتباره إهانة للولايات المتحدة، أو أمرا يخص الإدارة والشعب الأمريكى من قريب أو بعيد.. وذلك لأنهم يجيدون التفرقة بين الولايات المتحدة كوطن وشعب وإدارة ومصالح وبين الرئيس بوش أو أى أمريكى آخر سيذهب إلى البيت الأبيض رئيسا للولايات المتحدة.. ولكننا نحن فى الشرق لا نزال على عكس ذلك.. الأفراد هم الشعوب والقادة هم الأوطان.. وبالتالى يصبح من الممكن اختصار مصر كلها فى قرار للرئيس مبارك.. فإن لم يعجبك أو لم يقنعك هذا القرار تصبح مصر كلها هى التى لا تعجبك أو تقنعك.. وحين يخطئ الشيخ حسن نصرالله فى خطاب أو تصريح.. لا يبقى الخلاف مع مجرد شيخ وارد جدا أن يصيب أو يخطئ.. وإنما يصبح خلافا مع تجربة بأكملها اسمها حزب الله.. وهو ما يؤدى بنا إلى أن نرتكب كثيرا من المتناقضات دون أن نحفل أو حتى ننزعج.. ففى مرة تصبح سوريا هى الحليف وهى الشقيق وهى الوطن الثانى للمصريين.. وفى مرة أخرى تصبح سوريا نفسها هى بلد الذئاب والجبناء الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة ضد إسرائيل منذ عام 1973.. وحزب الله يصبح فى أوقات سابقة هو الوردة التى لابد أن يحملها كل عربى باحث عن الكرامة والكبرياء.. ويصبح نفس الحزب فى أوقات تالية هو ليس إلا مجرد عصابة من القتلة والمأجورين تحركها إيران كعرائس الماريونيت.. وبالنسبة إلى العرب ممكن جدا أن تصبح مصر هى قبلة العرب وقائدتهم وراعية حاضرهم ومستقبلهم.. وممكن حسب ما يستجد من ظروف أن تغدو مصر هى قاتلة العرب ونقطة ضعفهم الكبرى.. والمصيبة الكبرى أن من يمارس مثل هذه التناقضات لا يدرى أنه يناقض نفسه وما سبق أن كتبه وقاله بالأمس.. أما المصيبة الأكبر فهى أن الناس تصدق.. وتقتنع.. رغم أنها صدقت واقتنعت بالأمس بما يخالف تماما ما يصدقونه ويقتنعون به اليوم.. وقد كان يريحنى كثيرا وجدا أن ألقى بمسئولية ذلك على القادة والحكام العرب أنفسهم.. أو على الإعلام المصرى والعربى.. ولكننى هنا لست باحثا عن الراحة أو حتى عن حق الكلام وشهوته بقدر رغبتى فى البحث عن الحقيقة.. وبالتالى فلن أشارك فى أكبر عملية تدليل شهدتها الحياة المصرية طيلة الخمسين عاما الأخيرة.. وأقصد بها تدليل الناس.. فالإعلامى الذى يكتب ويتكلم عن أية مشكلة أو أى فساد أو خطيئة.. يبدأ دائما بالبحث عن متهمين أو جناة بعيدا عن الناس.. وهو أبدا لا يتصور أن ينتقد الناس أو يهاجمهم أو يحضهم على التفكير ومراجعة أنفسهم.. أبدا لا يتصور أن الناس العاديين.. فى الشوارع والبيوت والمكاتب.. ممكن أحيانا أن يكونوا هم المتهم الأول.. والمسئول الأول فى كثير من الأمور والقضايا وملفات الفساد أو الفشل.
وأنا الآن.. لا أطالب أحدا إلا بأن يفكر أولا.. وأيا كان القرار الذى سيتخذه بعد التفكير والتمهل.. فليس ذلك هو المهم.. وإنما هو أن ندرك كلنا ونقتنع بأن التفكير أصبح هو الفضيلة الغائبة فى حياتنا.. وأنه قد حان الوقت المناسب والضرورى لئلا نبقى كلنا قطيعا يسوقنا إعلام أو مكتب علاقات عامة فنحب ونكره ونغضب ونحزن بناء على تعليمات مسبقة وأوامر عليا.
الدين لله.. والأمن للجميع
الدين والأمن.. اثنان من الملفات التى لم تعد تحتمل كل هذا العبث والهزل الحاصل فى إعلام هذه الأيام.. ولا أعرف ما هى القواعد والحسابات والأسس التى يستند إليها كل من يكتب مشاركا فى كل هذا الهجوم الساحق على الدين وعلى الأمن فى بلادنا.. لا أعرف ما الذى يدور ببال كل من يعزم على أن يكتب من جديد رافضا هذا الهوس الدينى وسيطرة الدين على مظاهر حياتنا وأفكار وقرارات الكثيرين جدا فى الشوارع والبيوت.. أو يرفض هذه التجاوزات الأمنية التى باتت كثيرة الوقوع فى أيامنا بكل ما تمثله من ظلم وقسوة وامتهان للحياة والكبرياء.. ولكننى أعرف أن الحياة فى مصر.. وبالتحديد فى هذه الأيام وهذه الأحوال.. لم يكن من الممكن أبدا أن تستمر وتستقيم بدون الدين والأمن.. وقبل أن أطرح ما لدى من وجهة نظر.. أود أن أدعوكم أولا لتخيل نجاح حملات أولئك الرافضين للدين والذين يزعجهم ويربكهم هذا التدين والالتزام الدينى الذى تعيشه مصر.. وأن هذا النجاح أدى إلى تراجع الدين وأن يصبح مجرد طقوس لا تفرض قرارا ولا تصنع منهجا للحياة.. وأن مصر أصبحت كأوروبا نادرا ما تسمع فيها كلمة حلال أو حرام.. تخيلوا إذن ما الذى يمكن أن يجرى.. تخيلوا كل هؤلاء الفقراء والمهمشين فى مصر.. الشاعرين بالظلم والإحباط ومرارة الأيام وانكساراتها.. وقد تحرروا من قواعد الدين وأحكامه.. وخرجوا يطلبون القصاص والعدل على طريقتهم من كل أولئك الذين لم يعودوا يعرفون الفقر أو الحرمان.. تخيلوا سكان العشوائيات وقد قرروا فجاة أن يحاسبوا سكان المنتجعات.. تخيلوا الحياة بدون أمل أو عدل أو رحمة أو مساواة أو احترام متبادل.. وأيضا بدون كوابح الحلال والحرام.. مع أن هذا الحلال والحرام هو ما يمنع كثيرين جدا فى مصر هذه الأيام من اغتصاب القصور والبيوت والسيارات.. هو ما يمنح سكان هذه القصور ومستخدمى هذه السيارات القدر القليل والضرورى من الأمان.. ورغم ذلك ينتفض هؤلاء السكان المرفهون.. ضيقا وقرفا ومللا.. لأن بعضهم بدأوا يلاحظون زيادة عدد المحجبات أو طالبى صلاة الجماعة فى دواوين الحكومة ومكاتبها.. أو عدد المتابعين للدعاة وأحاديثهم سواء فى المساجد أو على شاشات التليفزيون.
أما الأمن.. فهو ملف آخر لا يقل ضرورة أو حساسية.. وقبل أن نفتح هذا الملف فلابد من الاتفاق أولا على أن هناك ضباطا خرجوا على القانون وتمردوا على قواعد الحياة واحترام الناس وحقوقهم وكرامتهم وشرفهم.. ولكن حين يتناول الإعلام حكاية أو تجاوزات أى ضابط من هؤلاء.. يصبح الأمن كله فجأة هو المتهم وهو الجانى.. لا أحد يقول أن الضابط الفلانى أخطأ وتجاوز وأجرم مع أحد أو مع كثير من المواطنين.. وإنما هو جهاز الأمن.. لا أحد يقول لنا أن ضابط شرطة فى قسم ما يمتهن كرامة الناس وإنما هو قسم الشرطة الذى يمتهن الكرامة والكبرياء.. وهو بالتأكيد إحساس رائع أن يشعر الذى يكتب أو الذى يتكلم بأنه ولو للحظة عابرة أقوى من وزارة الداخلية ووزيرها وأنه قادر على أن يعرى كل الضباط الكبار والصغار بثيابهم الرسمية وأزرارهم اللامعة.. ولكننى أطالب هؤلاء بتخيل الحياة لو نجحت كل هذه الحملات المتتالية فى أن نفقد كلنا ثقتنا فى الأمن ورجاله .. أطالبهم بأن يعيشوا حياة المواطن المصرى العادى الذى إن تعرض بيته للسرقة أو صدم أحدهم سيارته فى الشارع أو تعرض أطفاله للاعتداء.. فهذا المواطن وبشكل تلقائى سيفكر فى أقرب قسم شرطة وسيسارع للاحتماء به.. ولكن تخيلوا هذا المواطن وقد نجحت الحملات الإعلامية فى أن تغرس فى ذاكرته أن قسم الشرطة هذا هو المكان الذى يتم فيه قتل الناس أو اغتصابهم او انتهاك آدميتهم وكرامتهم.. وبالتالى لن يجد هذا المواطن أمامه إلا أحد أمرين.. أن يسلم أمره لله بدون بلاغات أو محاضر أو استعانة بأحد غير الله ولى الصابرين والمقهورين.. أو يقرر أنه ليس فى حاجة للقسم ليحصل على حقوقه.. وإنما سينال هذه الحقوق.. أو يستردها بذراعه هو.. وبدلا من قانون واحد مفترض أن يحتكم إليه الجميع.. سيصبح لكل منا قانونه الخاص.. وهو أمر بدأنا نعيشه بالفعل فى أيامنا الحالية.. وليس صحيحا ما بدأ يردده الإعلام الرسمى والخاص بأن بعض الجرائم المفزعة التى بدأنا نشهدها مؤخرا هى جرائم بلطجة وشذوذ أخلاقى واجتماعى.. ولكن الصحيح أن كثيرا من تلك الجرائم سببها الأول والمباشر والحقيقى هو فقدان الثقة فى الأمن ومؤسساته ورجاله ويقين داخلى بأن جهاز الأمن فى مصر لم يعد جهازا مطالبا بالحفاظ على حقوق الناس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة