بعيدا عن أرض الوطن .. يصبح المصرى شحنة من العواطف والأحاسيس .. يذوب غيرة على وطنه ويصاب بحساسية شديدة ضد كل من ينال من كرامته وسمعته ..
ملايين المصريين يعيشون فى الخارج ويحتكون بشكل يومى مع انتقادات حادة وحملات تشهير تطعن الكرامة المصرية فى الصميم. وما يرفع ضغط الدم أن "جوهر" الموقف المصرى لا يختلف كثيرا عن "جوهر" المواقف الرسمية لمعظم الدول العربية التى تنتقد شعوبها مصر وتكيل ضدها الاتهامات، ولكن للأسف هناك سلسلة من الأخطاء المتراكمة ارتكبتها الحكومة المصرية وأسفرت فى النهاية عن هذا المشهد المؤسف، وجعلت تسويق الموقف المصرى يبدو قاصرا مرتبكا .. ومستفزا فى بعض الأحيان.
على المستوى الإعلامى أصبحت المنظومة الإعلامية الحكومية تفتقد للوجوه المهنية الحقيقية غير المسيسة، الصحفيين الحقيقيين وليس المخبرين فى أجهزة الأمن والمتمسحين فى أحضان لجنة السياسات، وقيادات المعاشات الذين يتحدى وجودهم القانون والذين يدينون بالفضل للحكومة فى وجودهم على مقاعدهم رغم تخطيهم لسن المعاش.
طوال السنوات والشهور السابقة على حرب غزة استهلكت هذه القيادات الصحفية الحكومية كل مصداقيتها فى الدفاع الدائم عن مواقف الحكومة (بالحق أو بالباطل) والتورط فى النفاق والتسبيح بحمد النظام والردح لمعارضيه بشكل فج ومفضوح، وبالتالى، وعندما جد الجد وأصبحت مصر وليس النظام فى حاجة لمن يدافع عنها إعلاميا، أصبحت هذه الوجوه هى أسوأ من يقوم بتسويق الموقف المصرى.
الإعلام الحكومى نجح فى شىء واحد هو "الفشل" .. خان حتى دماء الشهداء .. فعندما سقط الضابط المصرى على الحدود بنيران فلسطينية تاجر الإعلام بدماء الشهيد الغالية، فرأينا صورته تتصدر الصحف القومية ولقاءات تليفزيونية مطولة مع أسرة الشهيد (ربنا يصبرهم على مصابهم الذى هو مصابنا جميعا) .. ولكن لأن نفس هذا الإعلام الحكومى سكت من قبل عندما سقط أكثر من جندى شهيد مصرى على نفس الحدود بنيران إسرائيلية فى السنة الماضية، لأن هذا الإعلام سكت وقتها بدا تعامله مع حادث مقتل الضابط الشهيد بنيران حماس ممجوجا متحيزا، رغم أن الاحتفاء بالشهيد والغضب لدمائه الطاهرة هو أقل واجب نستطيع أن نقدمه إلى روحه وأفراد أسرته.
ومشكلة الإعلام الحكومى واكبتها مشاكل أخرى فى أداء كثير من أجهزة الدولة، فعلى سبيل المثال ركزت معظم الانتقادات الموجهة ضد مصر على موضوع مطالبتها بفتح معبر رفح، وهى مطالبات ساذجة وغوغائية وغير عملية لا تنظر إلى الاستحقاقات القانونية المترتبة على هذا القرار، بينما موقف مصر من معبر رفح قوى ومفهوم ومنطقى جدا ويتفق مع التزاماتها الدولية ومع صالح القضية الفلسطينية بالمفهوم الاستراتيجى طويل المدى، ولكن هذا الموقف القوى والمنطقى السليم شابته تصرفات غير مسئولة استمرت قبل الضربة الإسرائيلية لغزة بوقت طويل، مثل منع قوافل إغاثة شعبية مصرية من الدخول لسيناء فى طريقها لمعبر رفح، فأصبح من السهل لمن يريد الصيد فى الماء العكر أن يخلط الأوراق ويزايد على موقف قانونى سليم مستغلا قرارات سياسية داخلية غير سليمة.
كما دفعت مصر ثمنا باهظا لصفقة الغاز المشئومة المشبوهة غير المبررة وغير المنطقية مع إسرائيل، ودفعت مصر أيضا ثمن عناد "موظفى الدولة" فى استشكال الحكم القضائى القاضى بإيقاف الصفقة ورفض تنفيذه، رغم أن الصفقة فاشلة ومرفوضة من الجميع بالمعايير الاقتصادية قبل المعايير السياسية.
كما أن مشاهد قمع المتظاهرين المناصرين لغزة ومحاولة إلصاق تهمة التظاهر بجماعة الإخوان المسلمين وحدهم تبدو تصرفا آخر غير مسئول وغير محسوب، فهو يتجاهل الإحساس الشعبى العام، ويرفع من قدر جماعة الإخوان ويجعلها تبدو وكأنها هى المعبر الوحيد عن مشاعر شعب مصر، بينما الذى حدث أن كل القوى الوطنية حتى المواطنين غير المسيسين وغير المنتمين لأى حركة أو حزب شاركوا فى المظاهرات، ومن لم يشارك فهو بالتأكيد يعانى من نفس حالة الغضب أمام المشاهد الدامية التى تستفز أى ضمير حى.
أما الأداء الهزيل لوزير الخارجية المصرى فى بداية الضرب الإسرائيلى لغزة، والذى جاء بعد ساعات قليلة من استقباله لوزيرة الخارجية الإسرائيلية فى شرم الشيخ، فهو خطأ آخر يجب الاعتراف به، فليس من المقبول أن يتم الحديث عن مثل هذه المذبحة على طريقة "إحنا حذرناهم كثير .. وآدى النتيجة" .. وفى تصورى أن أداء بعض موظفى الخارجية المصرية (ولو كانوا برتبة وزير) أساء كثيرا تسويق الموقف الرسمى المصرى، الذى لا يختلف فى جوهره عن جميع المواقف العربية بما فى ذلك الموقف الفلسطينى الرسمى الصادر من رام الله نفسها.
قد يكون هناك أطراف عربية أو إعلامية فضائية ساهمت (بسوء نية واضحة) فى حملة الشحن الشعبى ضد مصر، ولكن من المهم الاعتراف أن هناك أيضا أخطاء حكومية مصرية متراكمة أساءت تسويق الموقف المصرى والتعبير عنه، وساعدت هواة الصيد فى الماء العكر على المزايدة على مصر والشوشرة بالهجوم عليها، حتى يخفوا وهن مواقفهم الحنجورية التى لا ترتقى لواحد على مئة من قيمة الموقف المصرى الثابت والداعم دائما لقضية فلسطين فى كل العصور.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة