كنت أذهب أنا وتوفيق أحمد عضو الإخوان إلى السينما فى سرية.. و سألنا أحد عمال السينما عن «مصلى» فضحك علينا

الجمعة، 30 يناير 2009 01:52 ص
كنت أذهب أنا وتوفيق أحمد عضو الإخوان إلى السينما فى سرية.. و سألنا أحد عمال السينما عن «مصلى» فضحك علينا جمال البنا
كتب وائل السمرى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ألف الأستاذ خالد محمد خالد كتاب «من هنا نبدأ» وساعدته فى توزيعه وعندما صدر الكتاب صادره الأزهر وكتبت أخبار اليوم بالخط العريض: «هذا كتاب مطلوب إحراقه.. وإحراق مؤلفه»

فى الحلقتين السابقتين اطلعنا على كثير من أسرار جمال البنا لأول مرة، خاصة فيما يخص علاقته بأبيه السيد أحمد عبد الرحمن البنا وأخيه السيد حسن البنا، بالإضافة إلى شهادته التاريخية المهمة على عصر كان مليئا بالكثير من المتناقضات، التى أثر بعضها فى حياتنا حتى وقتنا هذا، وولى بعضها الآخر إلى النسيان، ووصف جمال البنا عصره الذى كان أئمة المساجد يصعدون إلى المنابر وفى أيديهم سيوف من خشب، وورق أصفر يتلون منه خطبهم، بالإضافة إلى أن الخمور كانت تباع فيه فى محلات «البقالة» كما كانت الدعارة مرخصة ومسموح بها تحت إشراف الدولة، وبين البنا فى الحلقتين السابقتين علاقته بأبيه وأخيه، وكيف أثرا فيه وفى تشكيل عقله ووجدانه، وألقى الضوء على كان ما يتمتع به الإمام حسن البنا مؤسس «الإخوان المسلمين» من سماحة أخوية حميمية، وكيف أنه كانت له آراء معتدلة فى إعطاء المرأة حقها السليب من الحرية والمساواة، وفى هذه الحلقة يدلى البنا بالمزيد من الأسرار عن الفترة المتقدمة من شبابه، التى شهدت بداية انخراطه فى المجتمع الفكرى والسياسى، بداية من اعتقاله ومرورا باشتراكه مع أحمد حسين باشا فى الحزب الاشتراكى فى الندوات واللقاءات، كما يعرض تجربته مع المؤسسة التعليمية فى عصره، وأسباب عدم انتظامه فى الدراسة، وبداية اعتماده على نفسه فى تشكل عقليته البحثية.

تعرفت فى منزل د سعيد رمضان بجنيف على إبراهيم الوزير، قائد أحرار اليمن، والشيخ عمر عبدالرحمن، وتحدثت كثيرا عن فكرة تعدد الزوجات فأيدنى الوزير قائلاً: «كل الصحابة كانوا يتزوجون بأكثر من واحدة».

لم تقتصر آثار الجذر الإسلامى على علاقة جمال البنا بوالده وشقيقه، إن وضعه عرَّفه على الإخوان المسلمين فى الأربعينيات، وكان قد تعود أن يذهب إلى المركز العام بالحلمية فى النهار (كان منزل الأسرة قريبًا جدًا من المركز العام) قبل أن يتخذ له مكتبًا خاصًا، ويجلس فى غرفة مركز الاتصال بالعالم الإسلامى، وكانت هذه الغرفة فوق سلاملك مستقل على يمين الداخل، ولم يكن يدخلها أحد بالنهار، فيكتب فيه، وكان ذلك لأن صداقة وثيقة نشأت ما بين جمال البنا ورئيس هذا القسم، والأستاذ عبدالحفيظ الصيفى، كما كان جمال البنا على صداقة بالشيخ عشماوى سليمان، رئيس إخوان قويسنا، الذى دعاه لزيارته هناك، والشيخ سيد سابق الذى قَبِل أن يعطى دروسًا وتوجيهات إسلامية بصورة منتظمة لمجموعة من الشبان والشابات جمعتهم السيدة عنايات الحكيم، وهى حرم الأستاذ عبدالمغنى سعيد، مدير المؤسسة الثقافية، وكان له اتجاهات إسلامية، وكان عبدالمغنى سعيد وحرمه على علاقة وثيقة بجمال البنا، ومثل الأستاذ أنس الحجاجى الذى ألف «روح وريحان» عن الإمام حسن البنا، وكان حسيبًا على آل البنا، كما كان أحد كتاب مجلة «النذير».

وقد دعا الإخوان جمال البنا مرة أو مرتين لحضور «الكتيبة» بالذهاب للمركز العام فى عصر يوم الخميس للانطلاق إلى ضاحية أو إلى صحراء تقام فيها صلاة المغرب وصلاة العشـاء يؤمهم الشقيق الأكبر، ثم ينامون ليقوموا ليصلوا الفجر وليستمعوا إلى قراءة الأستاذ البنا، وكانت الصلاة فى الأماكن الخلوية فترات الغروب الساحرة أو الشروق الأخَّاذة وطريقة تلاوة حسن البنا للقرآن من أكبر العوامل التربوية تأثيرًا فى الإخوان.

وكان القائم بأعمال سكرتارية وإدارة دار الإخوان شخصاً يدعى الشيخ توفيق أحمد، كان أصلاً عضوًا فى الجمعية الشرعية، وكان يأتى الدار لابسًا العمامة مرخيًا العدبة على ظهره، كما كانت عادة أعضاء الجمعية الشرعية، ونشأت صداقة وثيقة بينه وبين جمال البنا، وعن طريقه تعرف إلى الشيخ خالد محمد خالد، الذى كان أيضًا من الجمعية الشرعية، كما تعرف على الأستاذ سيد عويس، الباحث الاجتماعى بمكتب أحداث بولاق، وقد تطورت أحوال توفيق أحمد شيئاً فشيئاً، وكانا يذهبان إلى السينما فيما يشبه السرية، فيقوم جمال البنا بقطع التذاكر ثم يندس وسط الداخلين حتى يواريه ظلام قاعة السينما، ويذكر مرة أنهما سألا أحد عمال السينما عما إذا كان هناك «مصلى» فضحك الرجل، وترك الشيخ خالد خدمة الإخوان عندما سنحت له فرصة وظيفة فى الجمعية الزراعية الملكية، وتخلص من عمامته وعدبته ولحيته أيضًا، ثم دخل المعهد البريطانى الذى كان يعلم اللغة الإنجليزية بإتقان وكنوع من نشر الثقافة البريطانية، وكان فى حقيقته نادياً بالإضافة إلى كونه معهداً، وتهذب الشيخ توفيق فى هذا المعهد وأخذ بأسباب الحضارة الحديثة، وبالطبع فإنه أصبح يرتدى البدلة والبطلون.

كان الأستاذ توفيق أحمد صديقـًا حميمًا وعائليًا لجمال البنا، وظلت هذه الصداقة حتى توفى فى الثمانينيات، وحضر جمال البنا جنازته وشيعه إلى القبر مع خاصة أسرته.

كما أن العلاقة مع الشيخ خالد محمد خالد، الذى ترك بدوره العمامة والعدبة ولبس البدلة والبنطلون وثيقة، وعندما أراد إصدار كتابه »من هنا نبدأ» كان مفلسًا فطبع دفاتر اشتراكات بعضها بخمسة قروش والبعض الآخر للشخصيات الممتازة بعشرة قروش حتى يتهيأ له مبلغ ضئيل، وقام جمال البنا بدور فى توزيع هذه الاشتراكات، ولكن الله رزقه بصاحب مطبعة مثقف ومتعاطف فتحمل مسئولية الطبع، وعندما صدر الكتاب وصادره الأزهر، وكتبت أخبار اليوم بالخط العريض: «هذا كتاب مطلوب إحراقه.. وإحراق مؤلفه»، رزق شهرة مدوية دفعت بالأستاذ خالد إلى صدارة الشهرة، وكانت صداقة جمال البنا بالأستاذ خالد وثيقة وظلت حتى وفاته، وعبر الأستاذ خالد فى كتابه عن «حياتى» عن أن أول ما أثار دهشته عندما دخل الإخوان أن شقيق حسن البنا ليس عضوًا، بل إنه أسس حزبًا مستقلاً.

فى 8 ديسمبر سنة 1948 أصدر النقراشى باشا، رئيس الوزارة، وقتئذ أمره العسكرى بحل الإخوان المسلمين وكل هيئاتها، واعتقل فى هذا اليوم أعضاء مكتب الإرشاد وجمال البنا، وكان اعتقاله مع أعضاء المكتب علمًا بأنه ليس عضوًا أصلاً بالإخوان نقطة دلت على أن «البوليس السياسى» كان له رأى فيه، ولم تكن نشاطاته السياسية خافية عليه، المهم أن مكتب الإرشاد وجد فى وسطه جمال البنا، وجمال البنا وجد نفسه فى مكتب الإرشاد، وكان مما خفف وقع هذه المفارقة وجود شقيقه عبد الرحمن البنا عضو مكتب الإرشاد، ومع تطور الأيام زاد عدد المعتقلين وانتقلوا من الهايكستب إلى الطور، حيث بلغ العدد بضعة ألوف كانت فرصة ليتعرف جمال البنا على جمهور الإخوان، وأضيف إلى جمال البنا شقيقاه محمد وعبد الباسط فى مرحلة سابقة وخصص الإخوان لهم غرفة خاصة فى مدخل «الحذاء»، وكانت مخصصة للإدارة فأصبحت غرفة عائلية وأعفيت من الترتيبات التى كانت سارية على القاعات الكبيرة فى الحذاء التى تضم كل واحدة عشرين أو ثلاثين، مثل المشاركة فى صلاة الفجر أو بقية الدروس والمحاضرات أو حتى أعمال الطبخ وإعداد الوجبات، كان هذا نوعًا من الامتياز لإخوة الإمام، وقد تعرف جمال البنا على كثير من الإخوان دون أن يزول الحاجز الفكرى، وكان من المعتقلين عبدالملك عودة شقيق الأستاذ عبد القادر عودة، المحامى والعضو البارز فى الإخوان (وفيما بعد وكيل الإخوان وشهيد عبد الناصر)، وكان عبدالملك حديث التخرج من الجامعة الأمريكية وثقافته إنجليزية وكان يقدم بعض خدمات الترجمة للمرشد، وكان جمال البنا وعبدالملك عودة يخرجان سويًا ساعات الغروب ويجلسان خارج الحذاء، وأبدى عبدالملك عودة فكرة أن يبدآ معًا كتابًا عن الإخوان يحمل اسم «أزمة ديسمبر» ورحب جمال البنا بالفكرة وبدآ الخطوط، ولكنه تراجع بعد أن وجد أن مثل هذا المشروع سيوجد بينه وبين الإخوان أزمة.

وفى المعتقل حصل جمال البنا على نسخة من ديوان المتنبى، وأخذ يقرؤها ويعيد قراءتها حتى كاد يحفظ الديوان، كما كان هناك أستاذ لغة إنجليزية قرأ معه رواية Tess of the D'urbervilles للكاتب الإنجليزى «هاردى»، وكان قد قرأها مترجمـة إلى اللغــة العربية، كما حصل على نسخة من كتاب كرافشنكو «آثرت الحرية»، وكرافشنكو مهندس سوفيتى أوفده الاتحاد السوفيتى إلى أمريكا للاشتراك فى تحديد المواد المراد تقديمها للاتحاد السوفيتى بمقتضى قانون «الإعارة والتأجير» لسد حاجة الاتحاد من المعدات الحديثة، ولكنه آثر البقاء فى أمريكا والاختباء فيها حتى يمكن أن يفضح الفظائع والجرائم الستالينية فى كتاب حمل اسم «آثرت الحرية» فى أكثر من سبعمائة صفحة كبيرة، وأمضى جمال البنا فى قراءته أيامًا جعلته يعيش فى أجواء الاتحاد السوفيتى قبيل ثورة 17 أكتوبر وفى صميم الحقبة الستالينية.

وأراد الإخوان أن يكونوا فى المعتقل ما يشبه جامعة ورشح جمال البنا لهم عبدالملك عودة، ليكون أحد محاضريها، ولكنهم رفضوا، ولما أخبره بذلك قال : Excommunication from the kingdom of Allah «حرمان من مملكة الله»، وكان هذا فعلاً نوعًا من الحرمان الذى كانت الكنيسة الكاثوليكية تمارسه ضد معارضيها.

ومع أن معتقل الطور كان يضم بجانب الإخوان، الشيوعيين واليهود، فإن جمال البنا لم يقم بإيجاد صلة أو الحديث مع أى منهم، ولكن عندما انتقلوا إلى «عيون موسى» جاءهم هنرى كورييل واحتفى به جمال البنا، فقد كان مثله قصيرًا نحيفـًا يرتدى «شورت» ويضع رجليه فى »صندل» وتحدث معه مليًا، وإن لم يعد جمال البنا يذكر ما دار سوى لازمة كان يكررها «النظرية تقول».

طوال أيام المعتقل كان جمال البنا يلبس البيجاما أو بدلة خفيفة فى حين كان الإخوان جميعًا يلبسون عباءات كيفوها من البطانية، كما حافظ على حلاقة ذقنه يوميًا، وكان يبدو غريبًا بين المعتقلين الذين كانوا جميعًا يحتفظون بلحاهم ويضعون عباءات سابغة على أكتافهم، بحيث أن أحد الزوار ظنه من رجال إدارة المعتقل، وفكر جمال البنا فى كتابة كتاب بعنوان «قادم من الطور» وكتبه بالفعل، ولا تزال مسوداته بين أوراق جمال البنا.

فجمال البنـا وجـد نفسـه فى صميم الجماعـة الإسـلامية حتى وإن لم يؤمن بخطها الإســلامى، وقد تقبلته للصفة الخاصة والفريــدة له، كما تقبلها هو أيضًا بحكم الملابسات والظروف، ولم يحدث أن كان جمال البنا عضوًا ملتزمًا بالإخوان، ولكن وشـيجة قويـة ربطت بينه وبينها.

عندما أفرج عن جمال البنا من المعتقل فى أوائل 1951 اشترك فى تحرير مجلة «الدعوة» التى كان يرأس تحريرها صالح عشماوى بصفة رسمية، أى كمحرر يتقاضى أجرًا شهريًا ثابتـًا، وكان يكتب بها الأستاذ سيد قطب والأستاذ أنس الحجاجى وغيرهما، وكان جمال البنا يحرر صفحتين منها واحدة للعمال وأخرى للأحداث العامة، وكتب فيها أولى كلماته عن إصلاح السجون تحت عنوان «من وراء القضبان» بتوقيع «اللجنة الشعبية لإصلاح السجون» التى تمخضت فيما بعد عن «الجماعة المصرية لرعاية المسجونين وأسرهم»، وسلسلة من المقالات عن أثر الفكر الإسلامى فى الحركة الدستورية (جمعت وطبعت بعد ذلك فى كتاب مستقل).

فى أحد أيام 1951 عقب الإفراج عن جمال البنا زاره الأستاذ أحمد حسين، رئيس مصر الفتاة، التى كانت قد تحولت إلى «الحزب الاشتراكى»، ولم يكن جمال البنا يعرفه، وكانت تلك لفتة كريمة منه، رأى جمال البنا أنه من الضرورى أن يشكره فزاره وعرض عليه الأستاذ أحمد حسين العمل معه فى الحزب، فأوضح له أن مبدأه المقدس هو عدم الانخراط فى أحزاب، وأنه يقدر الحزب ويتمنى أن يخدمه دون الانخراط فى العضوية، فاقتنص الأستاذ أحمد حسين الفرصة وكان قناصًا للفرص وقبل جمال البنا أن يكوِّن قسمًا بالحزب باسم «خدمة الشباب» وكان يكلف هؤلاء الشباب بمطالعات، وبزيارات ونشاط اجتماعى، وكان من وسائل القسم أن يطلب بعض المسئولين لعرض قضيته ومناقشتها، وعن هذا الطريق جاء الأستاذ إحسان عبد القدوس، رئيس تحرير «روز اليوسف» وهيئة تحريرها وتحدث إليهم، كما دعا الدكتور يوسف الذى كان يرأس هيئة السلام، وكتب جمال البنا فى «الاشتراكية» نبذات صغيرة تحت عنوان «توجيهات قرآنية»، وكانت «الاشتراكية» وقتئذ أشهر الجرائد الأسبوعية، وكان جمال البنا مع الأستاذ أحمد حسين عندما جاء المصورون بصور متعددة للشحاذين والبؤساء الذين يملأون القاهرة فاختير منها أكثرها دلالات، وطبعت بحيث تملأ صفحتين متقابلتين من الاشتراكية تحت عنوان عريض «رعاياك يا مولاى»، وفى الأيام التى سبقت الحركة الناصرية كان المانشيت العريض للاشتراكية «الثورة.. الثورة.. الثورة».

وكسب جمال البنا من علاقته بالأستاذ أحمد حسين كسبًا غير متوقع، فقد دعوه يومًا ما لزيارة السيدة بهيجة البكرى وإلقاء كلمة عن الاشتراكية التى يدعو إليها الحزب، وقيل له إنها رئيسة السيدات الاشتراكيات وأنها جمعت لهذه المناسبة لفيفـًا من الرجال والنساء، وذهب جمال البنا فى إحدى ليالى ديسمبر الباردة إلى «الفيلا» الخاصة بها بشارع رمسيس فى مصر الجديدة، وكانت السيدة بهيجة هى الأخت الكبرى للسيدة سنية عنان حرم حسين عنان (باشا) وزير الزراعة ومؤسس نادى الصيد، كما كانت من كبيرات سيدات الخدمة الاجتماعية لأنها أسست مبرة فريال فى مصر الجديدة، وكانت الفيلا لا تخلو من كبار الزوار والزائرات، وكان للسيدة بهيجة ماضٍ طويل انتهى بأن آوت إلى بيت أختها.

وعندما دق الجرس وفتح الباب تعالى نباح عدد من كلاب «اللولو» البيضاء الصغيرة، وتقدمت السيدة بهيجة وساعدت جمال البنا على خلع معطفه، ووجد أنها جمعت قرابة عشرين سيدًا وسيدة، أحدهم كان عميدًا لكلية الطب، والآخر أستاذاً بكلية الهندسة، وبعضهم من رجال الأعمال إلى جانب سـيداتهم وبعض سيدات الخدمة الاجتماعية، وانتقلوا إلى مائدة الشاى المثقلة بالحلوى، وتحدث إليهم جمال البنا عن الاشتراكية حديثـًا أرضاهم، إذ كان الانطباع عن أحمد حسين أنه ثورى مثل لينين، ولكنهم عرفوا من المحاضرة أنه إصلاحى، ولكن بصورة صارمة، وتنهدت إحدى السيدات وقالت: Borgeois، وفى آثار هذا الاجتماع انعقدت صداقة خاصة ما بين جمال البنا والسيدة بهيجة البكرى التى كانت شديدة التعلق بالتعرف على الشخصيات العامة، وقالت له : إنها كانت تود التعرف إلى حسن البنا، وفى بعض الحالات كانوا يدعون جمال البنا للمشاركة فى رؤية فيلم فى سينما «كايرو بلاس»، وكان وكيلها العـام يمت إليهم بصلة، فكان يستقبلها مرحبًا ويدخلهم فى «اللوج» وكان على جمال البنا أن يدفع ثمن «الشيكولاتة» عندما يمر عليهم بائعها.

وفى إحدى المناسبات عندما كانت المجموعة كلها من السيدات باستثناء جمال البنا اقترحت السيدة بهيجة البكرى أن تدعو الضابط الشهير عزيز المصرى واتصلت به تليفونيًا، وبعد نصف ساعة كان يدخل الحجرة متئدًا بخطوات بطيئة ثابتة كالأسد الهصور، وقال له جمال البنا ضاحكـًا: «إلحقتى يا باشا» وفى مرة أخرى وجد الشيخ الباقورى، وكانت تداعبه كأم، وكانت هى التى اختارت له شقته فى مصر الجديدة، وكان الشيخ الباقورى وسيمًا طويلاً، وفى مناسبة أخرى فوجئ جمال البنا بدخول الضابطين الطحاوى وأحمد طعيمة كبيرى هيئة التحرير، وكان اللقاء غير منتظر ومحرجًا للجميع، وكان الجميع بصفة عامة يحبون السيدة بهيجة البكرى ويقبلون يدها وينادونها «تانت بيللى».

الأهم من هذا، أن جمال البنا عندما بدأ مشروعه فى جمعية رعاية المسجونين استخلص خمس سيدات كن من أكبر المساهمات معه فى عمل الجمعية، وكانت اثنتان منهن ذواتى جمال رائع، بينما الأخريات من العاملات بكدٍ، وكان وجود السيدة «زينب عزت» أو شقيقتها الصغرى «فاطمة عزت» فى عربيتها الكاديلاك مع جمال البنا إيذانـًا بالدخول على مدير عام السجون فورًا، ودون انتظار وقدمن جميعًا مساعدات جمة للجمعية الناشئة.

وكان جمال البنا ابتداء سنة 1978 يذهب إلى جنيف كل شهر يونيو ليشهد انعقاد مؤتمر العمل الدولى، وكان خلال إقامته (أربعين يومًا كل مرة) ضيفاً على زوج الابنة الكبرى للإمام الشهيد السيدة وفاء، الدكتور سعيد رمضان فى جنيف، وكان منزل الدكتور سعيد ملاذاً لكل الشخصيات الإسلامية الكبرى التى تمر بجنيف، وقد تعرف جمال البنا عنده فى إحدى المرات بالشيخ عمر عبد الرحمن وتحدثا مليًا، ويذكر جمال البنا أنه قال إن تعدد الزوجات كان فى نظره (أى الشيخ عمر) هو الأمر المقرر فى الإسلام وضرب المثل بأنه لا يعرف صحابيًا كانت له زوجة واحدة، ومرة أخرى تعرف فيها على الأستاذ إبراهيم الوزير قائد أحرار اليمن، وابن زعيم ثورة الدستور وشهيدها سنة 1946 الذى كان قد قرأ كتاب «الدعوات الإسلامية المعاصرة ما لها وما عليها» وأبدى دهشته واستنكاره لعدم مساندة الإخوان لجمال البنا، وقد استمرت علاقة جمال البنا القائمة على التقدير المتبادل معه حتى الآن، وفى بعض فترات الحرج كان نعم المعين، كما اشترك فى تأسيس دار الفكر الإسلامى بدفع 12 ألف دولار لم يسأل عنها، وقابل جمال البنا شخصيات أخرى عديدة، فضلاً عن أن سعيد رمضان نفسه كان موسوعة إسلامية وكان يصدر وقتئذ مجلة «المسلمون» التى أصدرها على غرار «الشهاب» التى أصدرها الإمام الشهيد.

جاوز الحديث عن الجذر الإسلامى وتوابعه، الترتيب الذاتى لتطور فكر جمال، فكائنـًا ما كانت آثار هذا الجــذر وامتداداته، فإنها لم تجاوز أبـدًا ما أراده جمال البنا لنفسه وما جعله لا يتورط فى الانتماء أو الالتزام بأى صورة لأى من الهيئات التى تعرف عليها، ولم يكن هذا ليحدث لولا أن جمال البنا كان قد قرر لنفسه مصيرًا معينـًا، لم يتصور جمال البنا نفسه موظفـًا يخضع لروتين الوظيفة، ولا محاميًا يعمل بالنهار فى المحاكم وبالليل فى مكتبه، ولا طبيبًا يعمل فى المستشفى بالنهار وفى العيادة بالليل، هذه كلها كانت وسائل «لأكل عيش» ولضمان المورد المالى بالدرجة الأولى، وهذا آخر ما كان يفكر فيه جمال البنا الذى كان يحرص على استقلاله من ناحية وعلى استغلال وقته للقراءة والكتابة والتفكير، وعلى حريته الفكرية أن تشلها القيود، وكان الشىء الثمين بالنسبة له هو الوقت الذى يجب ألا تهدره الوظيفة وغيرها، ولكن أن يظل تحت إرادته هو، كان جمال البنا قد قرأ أن جوركى قال: «كنت أقبل أن أضرب بالسياط وأدخل الجامعة» ولكنه كان يرى أن جوركى لو دخل الجامعة لما ظفرنا «بالأم» و«ست وعشرين وواحدة» وغيرها من روائع جوركى، وكانت الكتابة هى المهنة التى اختارها جمال البنا لنفسه، وعندما طبق نظام البطاقات الشخصية فى الخمسينات كتب فى المهنة «كاتب ومؤلف» وظلت تلك يحملها كل جوازات سفره حتى الآن، والعجيب أن هذا القرار يعود إلى سنوات عمره الأولى، أى التى جاوزت الطفولة إلى الصبا، ولم يكن فى أسرة جمال من يجبره أو يفرض حتى وإن كان صبيًا عليه شيئاً لا يريده، لأن هذا كان بعيدًا عن روح الأسرة، كما أن قطبيها أى والده وشـقيقه الأكبر كانا قد ســبقاه فى الاختيار، وكانا بحكم انهماكهما فيما اختـارا لنفسيهما، يعزفان عن حمـله على ما لا يريد، وهكذا فإنه بعد أن أتم الدراسة الابتدائية فى مدرسة العقادين الابتدائية، وهى على ناصية حارة الروم عند التقائها بشارع المعز لدين الله وكانت تتوسط المسافة ما بين بيت الأسرة ومكتب الوالد، دخل المدرسة الخديوية الثانوية بالحلمية الجديدة، وهى وقتئذ أعرق مدرسة ثانوية، ولم يكن جمال البنا طالبًا نابهًا متقدمًا فى دروسه حائزًا لأولوية فى مراتب الناجحين، كما كان بعض أشقائه، ولكنه كان طالبًا وسطـًا فلم يكن من المتقدمين أو المتخلفين، وكان يجد بعض الصعوبة فى اللغة الإنجليزية التى كان يتولى تدريسها «مستر إنجليزى الجنسية» كان يدخل الفصل واضعًا على رأسه طربوشًا متهرئًا ويبدو أن جمال البنا أخطأ فى شىء ما جعل أستاذه يقول له : You have to say I beg your pardon sir، وفكر جمال البنا فى معانى هذه الكلمات فهناك beg التى يشتق منها الــ beggars أى الشحاذون، وهناك «باردون» وهى تعنى المعذرة، وأخيرًا Sir أى سيدى، ومع أن هذه الجملة هى الجملة التقليدية التى تقال عندما يخطئ أحد الناس، ولم يكن فيها ما يمس الكرامة مطلقـًا، ولكن جمال البنا لم يتبين ذلك إما لعدم عمقه فى فهم الإنجليزية أو لحساسيته الخاصة فرفض، وكانت النتيجة أن رسب فى الإنجليزية كما رسب فى الملحق، لأن أستاذه لم يغتفر له ذلك، فاتخذ جمال البنا قراره بعدم مواصلة الدراسة الثانوية، وبالتالى عدم دخول الجامعة واتخاذ قطيعة بينه وبين المجتمع «البرجوازى» الذى تعد الشهادة الجامعية هى جواز المرور إليه والدخول فيه.
هل كان جمال البنا يقدر خطورة هذا القرار؟ أو أنه كان مسيرًا لمصيره الذى أراده الله له قبل أن يصطنعه هو لنفسه؟.

لمعلوماتك...
تم اعتقالى سنة 1948 وعاملونى فى المعتقل معاملة خاصة نظرا لكونى شقيق الأستاذ البنا وخصصوا لى أنا وأخى عبد الباسط غرفة خاصة فى المدخل تسمى «الحذاء»
فى المعتقل حفظت ديوان المتنبى وبعد خروجى أنشأت فى الحزب قسما باسم «خدمة الشباب» استضفت من خلاله إحسان عبد القدوس ورئيس هيئة السلام










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة