لنبدأ بالدمايطة، فأنا بالمناسبة واحد منهم، لم تنسنى عشر سنوات من الإقامة النهائية فى العاصمة جذورى الدمياطية العريقة، كأحد أبناء كفر سعد البلد، مركز كفر سعد، وهذا التوضيح أهديه فقط إلى من يهمه الأمر، لكن بصراحة -بينى وبينك- ألا تتحرج أحيانا من ذكر هويتك إذا كنت دمياطيا؟ ليس خجلا من شىء لا قدر الله، أو دفاعا عن تهمة أنت برىء منها، ولكن لأن «القعدة» عادة ما يكون دمها تقيل، وما إن يعرف القوم أنك دمياطى، حتى يصطادونك فى فاصل من التريقة والتنكيت، أو بالتعبير «الشيك»، المداعبات التى أنت فى غنى عنها، حتى أنك لا تشعر بالارتياح إذا حاول أحدهم إبراء ذمتك وإنصافك فيقول بلهجة جادة بعد أن يكون شبع ضحكا:
لا.. لا.. الدمايطة موش بخلا.. أنا عاشرتهم.. همه يمكن حريصين شويه..
البخل -إذن هو السيف المسلط على رقاب أهالى تلك المدينة الهادئة، التى تنام فى حضن البحر المتوسط ويشقها النيل- تهمة كلما حاول الدمايطة نفيها ازدادت التصاقا بهم، ولأن البخل كلمة مزعجة يتم استبدالها باسم الدلع وهو «الحرص». أصبح الدمياطى فى النكتة المصرية، هو الشخص البخيل بخلا أسطوريا يتجاوز كل منطق، والحريص على المال حرصا يتجاوز حكمة نزار القبانى، حين قال على لسان عبدالحليم حافظ «لا تخافى واهدئى.. فحرصى عليكِ كحرص نفسى على الحياة».
◄واحد دمياطى هو ومراته راحوا للفكهانى قالوا له شوف لنا حاجة ناخدها زيارة لواحد عيان.. الفكهانى قال: عندى مانجة حلوة الكيلو بعشرين جنيه. قال له الدمياطى: لأ يا راجل.. أصله موش عيان قوى كده..
◄ دمياطى على فراش الموت.. بيسأل عن ولاده: فين محمد؟ رد محمد باكيا: أنا هنا يا بابا.. فين محمود؟ رد محمود متأثرا: أنا هنا يا بابا.. فين حسين؟ رد حسين بصوت مخنوق: أنا هنا يا بابا.. زعق الأب وقال: انتم الثلاثة هنا وسايبين نور الصالة والع..
الثابت -على أية حال- أن دمياط مجتمع صناعى، تجارى، يعرف قيمة «القرش»، تطور منذ عهد محمد على حين أنشأ ميناء دمياط، أول موانى القطر المصرى بغرض جلب الأخشاب اللازمة لبناء الأسطول البحرى اللازم للتوسع، وبناء إمبراطورية كان يحلم بها هذا الوالى، ومع الأخشاب والسفن عرف أهالى دمياط فن التجارة، ومع الاختلاط بالشوام عبر الرحلات التجارية المتبادلة، نقل الدمايطة عنهم فن صناعة الحلويات، ومع الانفتاح على موانى أوروبا على الضفة الأخرى من المتوسط، كما هو الحال فى إيطاليا واليونان ومالطا، اكتسب الدمايطة عادات إيجابية مثل احترام قيمة العمل، ودقة المواعيد، والالتزام بالاتفاقيات، فضلا عن عادة «عدم الإسراف» فى المجاملات الاجتماعية، عرف الدمياطى قيمة «الادخار» و«الحرص» على رأس ماله، وتعلم أن يكون طموحا، «فالصبى» يصير «معلما»، والصنايعى فى الورشة يفكر فى تركها لينشئ ورشته الخاصة.
ومادمنا اتفقنا على الصراحة منذ البداية، فيجب علينا -نحن معشر الدمايطة حبايبى وبلدياتى- الاعتراف بأن المسألة زادت عن حدها، يعنى بينى وبينكم، ما معنى أن تأتى عائلة من القاهرة لتشترى أثاثا لزوم تجهيز ابنها أو ابنتها، وتصل القيمة الإجمالية لصفقة بيع غرفة نوم وصالون وسفرة وأنتريه إلى مائة ألف جنيه، وتظل الأسرة المرهقة المجهدة، طوال النهار، فى صحبة «معلم» صاحب المعرض، الذى لم يكلف خاطره ويعزم عليهم بأى شىء، يروى ظمأهم أو يسد جوعهم، اللهم باستثناء «شوية شاى ياد يا فتحى».
الدمياطى -وحتى نزيد من جرعة الصراحة والوضوح- رجل عملى يرفع شعار «صحابى ع القهوة»، بمعنى أنه يستضيف الأصدقاء فقط على المقهى البلدى، فالبيت خط أحمر، لكن المشكلة أن هذا ما يحدث مع فئات اجتماعية أخرى منهم الأصدقاء المقربون وشركاء العمل، والأقارب من الدرجة الثانية، البيت لا يفتح إلا فى حالة الأقارب من الدرجة الأولى، ومرة أخرى التعامل بالشاى والحاجة الساقعة، وهناك مقولة رائجة بين الدمايطة أنفسهم هى أن الدمياطى بخيل «لكن مش على نفسه ولا على أهل بيته»، ويضرب أصحاب هؤلاء النظرة مثلا دالا بأن نفس المعلم الذى لا يعزم إلا بكوب شاى مر، هو نفسه الذى يرسل صبى المعرض كل صباح إلى «الحاجة» فى البيت، ليحضر لها كل متطلباتها من فراخ ولحوم وأسماك وخضار والذى منه.
الدمياطى لا يترك حقه، هو لا يقبل أن «يستنطع» على أحد، لكنه فى المقابل لا يطيق من يحاولون أن «يستنطعوا» عليه أو يستغفلوه، فى «كفرالبطيخ» التى تعد الضاحية الجنوبية لمدينة دمياط، ستجد أفضل الأمثلة على ذلك، هنا يصل حجم «النقوط» المتداول فى المناسبات الاجتماعية المختلفة، مثل الخطوبة والزفاف والطهور إلى مئات الآلاف، والسبب أن الأهالى هنا معظمهم تجار فواكه وفى حاجة دائمة إلى رأس المال، وحين يُدعى أحدهم لحضور مناسبة لا «ينقَّط» بـ300 جنيه أو 500 أو حتى ألف، الرقم قد يصل أحيانا إلى 5 آلاف، لذلك فالمناسبة الاجتماعية يعلن عنها فى لافتات ضخمة، تشبه اللافتات الانتخابية وتعلق فى مداخل البلدة الرئيسية، والدعوة فيها عامة، لكنها تخص بالأساس من عليهم نقوط، ويجب أن يبادروا بسداده.. فى كفرالبطيخ ستجد أغرب طريقة لعقاب من يتقاعس عن السداد، عربة كارو بحمار وميكروفون وشلة من الشباب، يجوبون الشوارع لفضح و«تجريس» هذا الشخص المتخلف عن السداد، وهؤلاء يطلق عليهم «المجرساتية».
الكاتب الصحفى ممدوح الولى، صديق وبلديات، له نظرية مهمة فى إنصاف أهله وحبايبه مفادها أن دمياط ليست مدينة البخل بل هى مدينة.. بلا فاقد، فالزوجة الدمياطية تجهز لزوجها قبل توجهه إلى عمله «كيس بلاستيك», به كل بواقى الطعام من أرز وخبز وخضار، وفى معرض الموبيليا أو المصنع أو الورشة يعطى المعلم هذا الكيس لأحد صبيانه, فيعود إلى العمارة, ويصعد إلى السطوح ويقوم بتوزيع تلك البواقى على الطيور التى تربيها «الحاجة» ,التى تفضل أن تظل «متستتة» فلا تصعد سلما أو تحمل طعاما بنفسها، وتكون تلك البواقى البديل المجانى للأعلاف التى ارتفعت أسعارها بشكل جنونى.
ويبيع الدمايطة لأهالى «بطرة» -قرية صغيرة تتبع محافظة الدقهلية المجاورة لدمياط- لمبات النيون المحترقة، فالقرية بها محطات لتقوية الإرسال التليفزيونى ذات ضغط عال، تضىء تلك اللبمات المحترقة مرة أخرى بذبذات هذا الضغط العالى، ويذكر أن أحد الدمايطة زرع عددا من الأشجار أمام منزله بعدد أبنائه، وأطلق أسماءهم عليها، بحيث حين يحين وقت الصلاة يذهب كل منهم إلى الشجرة, ويجد إبريقا مليئا بالمياه فيتوضأ منه بجوار الشجرة المخصصة له، ليكون الأمر وضوءا وريا للشجرة فى نفس الوقت.
ويبدو أن بلدياتى ممدوح الولى, يفخر بأن الدمياطى لا يجد غضاضة من تغيير نعل الحذاء عدة مرات كلما تمزق، مادام جلد الحذاء لايزال سليما، وكل ذلك توفيرا لثمن شراء حذاء جديد. كما أنه -بالمثل- لا يجد حرجا فى تغيير ياقة القميص المتقطعة، بدلا من شراء قميص جديد حتى لو كان صاحب الياقة مليونيرا، والدمياطى «حريص» حتى فى ممارسة الجنس مع المدام، فهو يفضل ألا يزيد الأمر عن مرة واحدة فى الأسبوع، هى ليلة الإجازة، حتى لا «يتأثر» إنتاجه فى اليوم التالى، وإذا أقدم على عمل خيرى، كما حدث فى تجهيز مستشفى دمياط التخصصى بالجهود الذاتية، ضرب عصفورين بحجر واحد، فمن تبرع بعدد من الكراسى للمستشفى أو عدد من الأسرة، يكتب اسم معرض الموبيليا أو المصنع عليها، ليكون الأمر تقربا إلى الله.. وتقربا إلى الزبون.. علما بأننى -والله العظيم تلاتة- أردت من الصديق الجميل ممدوح الولى، أن يكون صوت الدفاع الحار عن أهلى وبلدياتى، ولست مسئولا عن النتيجة النهائية.
لمعلوماتك...
◄30 ألفاً عدد سكان دمياط فى حكم محمد على
◄1170 حاصرت الحملات الصليبية مدينة دمياط
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة