بعد ثلاثة أسابيع من مذبحة غزة وجهت وزيرة خارجية جورج بوش «الصغير» دعوة لوزيرة خارجية الإسرائيليين كى توقع معها ما يوصف بمذكرة تفاهم. تتعهد أمريكا فى هذه المذكرة بالعمل على ضمان وقف ما وصفته بتهريب الأسلحة إلى قطاع غزة. أغمض عينيك وابتعد قليلاً عن التفاصيل تدرك أن هذا الاتفاق أقرب ما يكون إلى معاهدة استسلام. ارفعوا رؤوسكم.
قبل أن تبحث عن الحاضر ابحث عن الغائب. والغائب، أبرز الغائبين، فى هذا «الوعد» هو مصر. والذى لا نعرفه الآن هو ما إذا كانت واشنطن قد استشارت القاهرة قبل أن تقطع الأولى على نفسها وعداً أقرب ما يكون إلى وعد بلفور، ممن لا يملك إلى من لا يستحق. فإما أن الحكومة المصرية متواطئة من وراء الكواليس، أو أن هذه الإدارة الأمريكية قد بلغت من الغرور وقلة الحياء حد المهزلة.
ورغم أن سنوات البيت الأبيض السوداء الماضية تجعل الاحتمال الثانى أقربهما إلى الواقع، فإننا لا نعرف تماماً ما يعنيه مثل هذا الوعد، خاصةً على ضوء اتهامات متكررة من واشنطن وتل أبيب بأن القاهرة تغض الطرف (على الأقل) عن تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة. هل معنى ذلك مثلاً أنه إذا لم »تتعاون« الحكومة المصرية ستحرمها واشنطن من »الجنة«؟ أم أن معناه أنه إذا لم تشترك مصر فى قتال الفلسطينيين سيكون من حق أمريكا أن تحتل الثلث الشرقى من سيناء؟
ارفعوا رؤوسكم، فإن واقع الأمر أن فى توقيع هذه المذكرة اعترافاً رسمياً إسرائيلياً بفشل حملتها المسعورة على قطاع غزة. فلا هى استطاعت وقف صواريخ المقاومة بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من الفجور (حتى كتابة هذه السطور لا يزال متوسطها اليومى حوالى 25 صاروخاً) ولا هى استطاعت الوصول إلى مطلقيها بعد أكثر من أسبوعين من التوغل، ولا هى استطاعت أن تضمن حرمان الفلسطينيين منها فى المستقبل، ومن ثم تهرول الدولة التى تملك أكثر من 300 قنبلة نووية وأخطر سلاح جوى فى المنطقة إلى ربيبتها علّها تحميها من البنادق الرشاشة والقذائف منزلية الصنع. والأهم من ذلك كله أن فى توقيع هذه المذكرة استسلاماً إسرائيلياً رسمياً لحقيقة أنها لم تستطع بعد أن تجد طريقاً نحو كسر إرادة المقاومة.
ارفعوا رؤوسكم، فقد أهدتنا إسرائيل جميلاً نادراً لن ننساه لها عندما فتحت مذابحها فى غزة عيوننا على الفارق الحاسم بين الأخ وابن العم والصديق والمدّعى والمنافق والعدو. بالدم تتحرر الأرض وبالدم أحياناً تنكشف الحقيقة. وإذا فهم البعض من هذا غمزاً ولمزاً تجاه بعض الأطراف، وعلى رأسها مصر، دعونى أكون أكثر صراحة. فلا أمريكا ولا إسرائيل كانت فى حاجة إلى دعوة كاميرات التليفزيون كى تسجل التوقيع على »إعلان« مذكرة من هذا النوع.
بل إن العكس عادة هو الصحيح فى مثل هذه الأمور الأمنية، إضافةً إلى أن الكل يعلم، وعلى رأسهم مصر، أن واشنطن ملتزمة علناً بأجندة إسرائيل. لكنّ هذا الإعلان بهذه الطريقة يدفعنا نحو مجموعة من الملاحظات.
فأولاً هو محاولة مسرحية لإبقاء ورقة التوت على عورة الحكومة الإسرائيلية أمام جمهورها بعدما أدركت أنه لا سبيل أمامها إلى إنجاز ما أعلنته أمام العالم من مبررات للمذبحة. وثانياً هو تأكيد عملى على عقدة الأمن النفسية الأزلية داخل الشخصية اليهودية. وثالثاً هو عملية إرهاب سياسى موقّعة ومختومة ومسجلة نحو مجموعة من الأطراف على رأسها مصر.
ماذا تنتظر الحكومة المصرية بعد ذلك وهى تُدفع دفعاً كل يوم إلى أرض جديدة تحفر بينها وبين أهلها مزيداً من خنادق العزلة وفجوات سوء الفهم؟ أخيراً يشكو وزير الخارجية، أحمد أبو الغيط، من »تعنت« إسرائيل. ... نعم؟! لحظة من فضلك! «تعنت» إسرائيل؟! حاشا لله! إن ثمة مدخلين لتحليل الموقف الرسمى المصرى، أحدهما يفترض سوء النية وينطلق من نظرية المؤامرة والآخر يفترض حسن النية ويأخذ فى الاعتبار ظروف الواقع.
أنا من المؤمنين بالمدخل الثانى، ولهذا فإننى أولاً أتوجه بتحية واجبة إلى جبل الجليد اللواء عمر سليمان الذى يعمل من زمن بعيد بفلسفة براجماتية بعيداً عن الكاميرات والمزايدات، لكننى فى الوقت نفسه أعجز عن فهم الأساس الذى انطلق منه الموقف المصرى لحظة بدء العدوان الإسرائيلى على غزة وتطوره سريعاً إلى مذبحة. ذلك أنك حين تحصر دور مصر فى مجرد الوساطة إزاء حريق متعمد أمام نافذتها فإنك تسلبها حقها المكتسب فى التصدى لهذا الحريق، إن لم يكن لنجدة أخ وجار فدرءاً لأن تمتد النار إلى غرفة نومها.
والذى يبدو أنه سقط سهواً من الحسابات المصرية هو أن الإسرائيليين شنوا هذه المذبحة بهدفين معلنين على أساس أن معيار تحقيقهما هو معيار إمكانية التوصل إلى حل سياسى.
هذان الهدفان «المعلنان» هما إجبار حماس على وقف إطلاق الصواريخ ووقف تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة إلى الأبد. وهذان الهدفان «المعلنان» لا يمكن تحقيقهما إلا عن طريق من ثلاث. أولاً: إبادة شعب غزة عن بكرة أبيه أو، ثانياً: تفتيش البيوت الغزاوية بيتاً بيتاً وغرفة غرفة ونفقاً نفقاً وتدمير ما بها من صواريخ صاروخاً صاروخاً مع التحكم فى معبر رفح بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر أو، ثالثاً: قيام حماس فجأة بقدرة قادر بالاعتراف بإسرائيل وتطوعها بإلقاء صواريخها فى البحر الأبيض المتوسط وإعدام من تسول له نفسه من أعضائها يوماً ما أن يساهم فى تهريب الأسلحة إلى الداخل.
الإجابة باختصار هى أن هذين الهدفين هدفان مستحيلان من الناحية العسكرية، كما أنهما مستحيلان من الناحية السياسية بناء على حقيقة يعرفها الجميع: أن أياً من الطرفين لا يعترف بالآخر. ومن ثم فقد أدى المستحيل الأول بإسرائيل إلى مواجهة مرارة المستحيل الثانى وهو ما أدى إلى محاولة بائسة للهبوط من الجبل العالى، الذى صعدته بحماقة منقطعة النظير، عن طريق واشنطن، وهو ما أدى بدوره إلى إيقاظ الدور المصرى الحقيقى.
بين توقيع مذكرة التفاهم العجيبة هذه فى اليوم الحادى والعشرين للمذبحة وبين اجتماع مجلس الحرب الإسرائيلى مساء اليوم التالى، لابد أن القاهرة كانت تغلى بعدما شعر الوسيط المصرى بالخذلان. لقد تحملت الحكومة المصرية لثلاثة أسابيع انتقادات ومزايدات ومظاهرات وهى تمضى فى محاولة مكوكية جادة لاحتواء الموقف. وكأنه لم يكن كافياً فى أعين الإسرائيليين والأمريكيين أن البعض اتهم مصر بالعمالة فلم يكتفوا بخيانة جهودها وحسب، بل ألقوا إلى أحضانها بكرة ملتهبة فى صورة هذه المذكرة.
فجأةً، أصبحنا نتحدث علناً عن »خطوط حمراء«، وحين يحدث هذا أمام الكاميرا فاعلم أن ثمة مشكلة كبرى وراء الكاميرا. لكنه يعنى فى الوقت نفسه أنه فى النهاية لا يصح إلا الصحيح. ارفعوا رؤوسكم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة