المدهش أن الأصوات المستنكرة لواقعة عزومة الشراقوة للقطار، لم تخرج من دمياط، بل من المنوفية، نعم.. كان المنايفة هم الذين جهروا بالاستهزاء بالشراقوة قائلين «أما والله، ناس هُبل صحيح.. فيه حد يعزم القطر كله..!» ويبدو أن وقع هذه الكلمات كان مؤلما على أهالى الشرقية، التى صاغ مبدعوها تلك الحكمة الشعبية المغزولة بالسجع والموسيقى: «المنوفى لا يلوفى ولو أكلته لحم الكتوفى»
لم تعد تلك الكلمات مجرد كلمة قيلت فى لحظة انفعال عابر، بل سكنت -للأسف- الوجدان الشعبى، واستقرت عميقا فى سرداب الصور الذهنية الفولكلورية، تناقلتها المحافظات وتوارثتها الأجيال، وأصبح المنوفى -وفق هذا المثل- مفترى عليه، فهو شخص لا يألفك ولا تألفه مهما أطعمته من أطايب الطعام، وتحديدا منطقة الكتف من الذبيحة. المؤسف أن الهجوم على المنايفة يتجسد فى مثل شعبى آخر يقسو بشدة عليهم، بقدر ما يحمل مرارة شديدة
تجاههم، وأعنى به «تاخد من الكلب صوف، وماتخدش من المنوفى معروف»
الأمر هنا يتجاوز طرافة نكات الدمايطة، ويدخل للأسف فى إطار الحرب الإقليمية، والتراشق اللاذع بين هذه المحافظة وتلك، فخبرة التعامل الشخصى مع المنايفة على الأرض تؤكد أنهم «متفاوتين»، منهم الصالح ومنهم من هو دون ذلك، والخبر السار الذى يؤكده أساتذة الفولكلور وباحثو الأدبيات الشعبية، هو أن النكتة أو الطرفة يلزمها التركيز على فئة أو إقليم أو شعب معين، ورسم عدد من السمات الكاريكاتيرية المبالغ فيها له، وتأخذ دورتها من الذيوع والانتشار لتصبح فى النهاية تجسيدا خالصا لفكرة «الصورة الذهنية» أو Streo - type، وهى بطبيعتها غير علمية، وغير دقيقة لأنها تقوم على مبدأ «التعميم» وأخذ الكل بذنب البعض.
لكن لماذا «المنايفة» تحديدا؟
منوفى «قُح»، يعمل فى القاهرة، ويبيت يوميا فى موطن أجداده، سألنى: هل تعرف «التفسير الحرفى» لمعنى كلمة «منوفى»؟ أجبت بالنفى، فتهلل وجهه قائلا: شوف يا سيدى..
- الميم فى هذه الكلمة تعنى: مالوش صاحب..
- النون: ناكر للجميل..
- الواو: واكل حق غيره..
- الفاء فاكر اللى ليه، ناسى اللى عليه..
وتحرك صديقى المنوفى فى طريقه للانصراف، فسألته فى لهفة: «والياء»؟ فقال: الياء، يا ويله اللى يقع تحت إيده.. وانصرف وضحكاته تجلجل مضيفا: أنا عارف إنك دمياطى، لكن متنساش تشوفنى بحاجة لما تقبض مكافأة المقال.
شعبيا، هناك يقين راسخ لدى معظم المصريين بأن المنايفة أهل ولع وغرام بالسلطة، فهم معروفون -على سبيل المثال- بحبهم الشديد للتطوع فى الخدمة بالقوات المسلحة، التى يكن لها المصرى كل حب وتقدير منذ الفراعنة، والانتساب إليها هو غاية الشرف، ولكن مشكلة المتطوعين المنايفة أنهم كثيرا ما يتركون ذكريات ليست رائعة تماما لدى كل جندى مجند، دعت عليه أمه و«وقع تحت إيد» صول أو شاويش منوفى، لذا، تركز النكات على تلك المسألة على طريقة «إذا ضرب البروجى فى تلا، يقف المنايفة تلاتات» ويتيه المنايفة بمقولة «الصعايدة بنوا مصر، والمنايفة حكموها»، مدللين بأن السادات ابن ميت أبوالكوم، ومبارك ابن كفر مصيلحة، وكذلك 3 من وزراء الداخلية، فضلا عن عدد هائل من الوزراء، والمسئولين هم منايفة أبا عن جد.
وإذا تذكرنا حقيقة أن العلاقة بين الشعب المصرى وهرم السلطة فى مستوياته المختلفة تمر -تاريخيا- بوعكة ما، أمكننا أن نفهم ونعرف ونقترب.