ما رآه العالم على شاشات التلفاز من أهوال وفظائع فى قطاع غزة يشيب لها الولدان وتدمى لها القلوب وتدمع لها العيون، والتى زلزلت مشاعر وعواطف وضمائر الشعوب الحية الحرة بمختلف انتماءاتها القومية والدينية والإيديولوجية مما دفعها للنزول إلى الشوارع والميادين للمطالبة بوقف هذا المارد الإسرائيلى الذى انطلق من قمقمه يقتل ويدمر، يحرق الأخضر واليابس ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ بطريقة هيسترية دونما وازع من دين أو أخلاق أو ضمير، هذا المشهد المأساوى الذى صدم وروع ذى الألباب القاسية قبل الرحيمة فى همجيته وبشاعته إلا قلوب حكامنا العرب التى ما فتأت صامدة صمود الجبال الشوامخ، جعل الكثيرين لا يستوعبون أسباب الصمت العربى الرسمى والدولى الممثل فى مجلس الأمن والذى تحول إلى مجلس حرب على يد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأشرار فى العالم.
فالكل يتساءل لماذا وصلت الإنسانية إلى هذا الحد من فظاظة القلب وقسوة الضمير والبربرية واللانسانية وهى ترى أطفال تسحق ونساء تدهس ومساجد وبيوت تدك بالأرض بما فيها من البشر، وهى ترى شعب محاصر بلا ماء أو كهرباء أو دواء أو كساء ترى كل هذه الفظائع ولا تحرك ساكنا، وعلى رأسهم الحكام العرب وهم أولوا القربى والجار بالجنب لاسيما وأن مسئوليتهم نحو فلسطين ليس مسئولية سياسية وأخلاقية فحسب بل هى دينية وعقدية وقومية من الطراز الأول.
الحكام العرب اختلفوا على عقد قمة عربية يدينون فيها العدوان الغاشم البربرى على هذا الشعب الأعزل، و تفرغوا فقط لتصفية الحسابات والحروب الإعلامية الطاحنة يوصمون بعضهم بالتخوين والعمالة والتواطؤ لاسيما بين محورى الاعتدال والممانعة التى نجحت الولايات المتحدة فى خلقهما فى المنطقة طبقا لرؤيتها الإستراتيجية للشرق الأوسط الجديد وتطبيقا لنظرية فرق تسد، وبسبب ضعفهم وعدم قدرتهم على لملمة أشلائهم المبعثرة ذهبوا بالملف إلى مجلس الأمن الذى فشل فى استصدار أى قرار تحترمه إسرائيل ويلزمها بوقف إطلاق النار من أجل إعطاء المزيد من الوقت لإسرائيل لحسم المعركة وحصد المزيد من الضحايا والأرواح لكسر شأفة وعزيمة المقاومة وتأليب الشعب الفلسطينى عليها ، تمهيدا لتصفيتها من أجل تمهيد طريق الاستسلام للسلطة الفلسطينية التى فقدت الكثير من شعبيتها بسبب ولائها وخنوعها وانصياعها المطلق لإسرائيل والولايات المتحدة الذى وصل إلى حد التواطؤ والمشاركة فى وأد حماس والمقاومة، وهذا ما كشفت عنه التقارير الصادرة من إسرائيل نفسها، بحثت عن هذا "الكفر" الذى أصاب قلوب القائمين على شئون العالم وعلى رأسهم الحكام العرب وهم يرون هذه الإبادة الجماعية دون أن يحركوا ساكنا، فوجدت أن كلمة السر فى بلادة وبرود المشاعر الإنسانية التى فاقت كل تصور سواء من الأنظمة العربية أو الدولية هو السياسة فالسياسة تتمحور عند الغرب حول محورين رئيسيين، هما القوة والسيطرة، والمصلحة والمنفعة أو البراجماتية وذلك حسب نظرية ميكافيلى الكاتب السياسى الإيطالى صاحب كتاب الأمير الذائع الصيت فى عالم السياسة، هذه النظرية التى تنص على "أن الغاية تبرر الوسيلة" قد فصلت الدين والأخلاق عن السياسة تماما، وهى تعنى أن السياسة لا دين لها فهى لا تلتزم بأى قيم أو قواعد إنسانية أو أخلاقية فى سبيل تحقيق الغاية ، وترى أن المصلحة المادية فوق مصالح الدين ومبادئه وأن الله وأمره ونهيه وحسابه لا مكان لها فى قاموس السياسة، وهذه النظرية التى تقوم عليها السياسة الغربية هى التى يبرر بها الطغاة والمستبدون جرائمهم ضد الإنسانية، ولا ننسى الكوارث والمذابح والتطهير العرقى التى ارتكبها هتلر وموسولينى وغيرهما من الدكتاتوريين فى الحرب العالمية الأولى والثانية والتى راح ضحيتها الملايين بمن فيهم اليهود التى آوتهم الدولة العثمانية، عندما نكل بهم هتلر والآن هم يردون لنا الجميل بمساندة الغرب الذى غرس هذا الجسم السرطانى فى أرض فلسطين من أجل التكفير عن ذنوبه وآثامه فى حقهم على حساب دماء وأشلاء العرب والمسلمين ، وهذه النظرية هى ما ينادى بها الكثير من الأنظمة العربية الآن بفصل الدين عن الدولة أى تغييب الدين وجعله فى الطقوس والمساجد وداخل الصدور وهذا ما عبر عنه الراحل عبد الوهاب المسيرى بالعلمانية الشاملة التى تنادى بفصل الدين عن الحياة كلها بدعاوى كثيرة وواهية منها الحفاظ على أمن الدولة واستقرارها بعكس الحقيقة التى يعرفها الجميع وهى الحفاظ على العروش والخوف من استيلاء الإسلاميين على السلطة ، وقد عرف هانس مورغنتاو صاحب كتاب السياسة بين الأمم 1948 السياسة بأنها صراع من أجل القوة والسيطرة .
أما هارولد لاسويل فقد عرف السياسة بأنها هى السلطة أو النفوذ الذى يحدد من يحصل على ماذا ومتى وكيف ، هذا المفهوم للسياسة هو الذى أوصلنا إلى ما يحدث اليوم فى قطاع غزة من جرائم وتدمير وفظائع و قتل للأطفال وقصف للمدارس والمستشفيات والمنازل تعدى فى وحشيته وفظاظته كل الأعراف والقوانين والمواثيق الدولية والإنسانية سواء الوضعية أو السماوية، وهذا هو سر الصراع الأذلى بين الإسلاميين والعلمانيين والذين يرون أن العلاقة بين الدين والسياسة علاقة تصادمية وتخاصميه وراحوا يشيعون مقولة "لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين" وغيرها من الادعاءات التى فندها العلماء وعلى رأسهم العلامة الدكتور يوسف القرضاوى فى كتابه الدين والسياسة ، فمن الطبيعى وحسب هذا المفهوم العلمانى للسياسة أن نرى ما نراه اليوم من قتل وتدمير وحرق للشجر والحجر من أجل الوصول للغاية ، فماذا تنتظر من الإنسان عندما يفقد ضميره وأخلاقه ومشاعره، إلا أن يتحول إلى إنسان وحشى سادى غير ادمى يتلذذ من القتل ويتشفى من إراقة الدماء كالذئاب فى البرية من اجل الوصول إلى غايته الدنيئة وغير الأخلاقية.
والنظام العالمى الآن تحكمه القوة ، والقوة إذا انفصلت عن الحق أصبحت خطرا يهدد الضعفاء ويبطش بكل من لا ظفر له ولا ناب ، والتاريخ الإسلامى يذكرنا بالكثير من القصص التى حدثت عبر التاريخ بسبب غياب الوازع الدينى منها عاد قوم هود، ومنها قصة فرعون الذى تجبر وتكبر وادعى الإلوهية وعاث فى الأرض فسادا وأصبح رمزا للطغيان والكفر حتى وصل به الحد الى تحدى خالق الكون ، وما فعله مع السحرة وقتل الأطفال وما فعله مع ماشطة ابنته عندما ألقى بأطفالها الخمسة أمامها فى النار عندما أبت أن تكفر بالله، وهناك أصحاب الأخدود وقارون وهامان والنمرود وأبو لهب وأبو جهل وابن نوح وأبو إبراهيم وامرأة لوط وغيرهم من الذين تعج بهم كتب التاريخ الإسلامى وكلنا يعرف مآلاتهم التى صارت عظة وعبرة وعلامة على الجحود والكفر والظلم والطغيان بسبب غياب الوازع الدينى.
وهذا ما يتجسد اليوم أمام أعيننا وبشكل أفظع.. والسؤال الآن كما يطرحه العلامة يوسف القرضاوى فى كتابه الدين والسياسة هل هذه هى السياسة التى يطمح إليها البشر؟ ثم يجيب أن البشر لا يصلح لهم إلا سياسة تضبطها قيم الدين وقواعد الأخلاق وتلتزم بمعايير الخير والشر وموازين الحق والباطل، والدين يمنح رجال السياسة الحوافز التى تدفعهم الى الخير وتوقفهم عند الحق وتشجعهم على نصرة الفضيلة وإغاثة الملهوف وتقوية الضعيف والأخذ بيد المظلوم والوقوف فى وجه الظالم حتى يرتدع عن ظلمة ، والدين يمنح السياسى الضمير الحى أو " النفس اللوامة " ، والدين لا يرضى عن ظلم ولا يتغاضى عن زيف ولا يسكت عن غى ولا يقر تسلط الأقوياء على الضعفاء ، وهذا كله عكس النظرية الميكافيلية التى تقوم على استعمال النذالة والخيانة والغدر والتضليل والخداع والغش فى سبيل الوصول الى الهدف ، فيروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنكر قتل امرأة فى إحدى الغزوات قائلا " ما كانت هذه لتقاتل " .. فما حدث فى غزة من الذى يقترفه هل هم الظلاميون أم المستنيرون أصحاب الحضارة المادية الرفيعة ؟ وهنا نحن لا ننادى بدولة دينية كهنوتية تتحكم فى أهل الأرض باسم السماء ولكن دولة مدنية بمرجعية دينية، أم القائل بأن بوش كان يتصرف باسم الدين وأن إسرائيل قائمة على العقيدة اليهودية ، نقول هذا ظلم بين للأديان، فلا بوش كان يحكم بقيم ومبادئ المسيحية القائمة على التسامح والعيش المشترك والعدل والقيم الإنسانية ولا إسرائيل تحكم بمبادئ اليهودية بل ببرتوكولات آل صهيون وفكر هرتزل مؤسس دولة إسرائيل العنصرية لأن اليهودية كأى دين قائمة على التسامح والعيش المشترك والعدل.
المؤسف حقا أن كل الجرائم التى ترتكب يزج فيها بالدين وهذا افتراء على الدين التى تستخدمه الأنظمة الديكتاتورية والفاشية والمستبدة للتغطية على جرائمها وآثامها التى ترتكب فى حق البشرية ، وكلنا يعرف المآسى والنكبات التى يعيشها العالم من جراء هذا الفكر العلمانى الرأسمالى الجشع من أزمات مالية طاحنة وتدمير لدول مثل العراق وأفغانستان ، فلا اليهودية ولا المسيحية ولا الإسلام يقر بما حدث ويحدث فى غزة والمناطق الأخرى من العالم من مآسى بل يشجبه ويدينه ويحاكمه فى الأرض وفى السماء ، إننا نريد دينا يضبط جوامح الإنسان ويحجم من شروره ويحرك فيه المشاعر الإنسانية ويوطن فيه القيم الأخلاقية ولا نريد دينا يحكم باسم السماء كما حدث من الكنيسة الغربية أيام عصر الظلام فى أوربا ، نريد توازنا بين الروح وبين المادة ، لا نريد مثنوية الإنسان التى تفصل بين جسده وروحه وهو التفكير الذى ساد فى الغرب عند فصلهم بين الكنيسة والدولة، فالروح هى مركز المشاعر والأحاسيس الإنسانية فإذا انتزعت تلك الروح من جسد الإنسان صار بلا قلب وبلا ضمير وبلا أخلاق وهذا ما تجسد أمام أعيننا إبان العدوان على غزة، فهل يراجع العلمانيون والحداثيون والماركسيون نظريتهم فى العلاقة بين السياسية والدين بعد هذا المر الذى شربناه ونشربه على يد أفكارهم المستنيرة، أم أنهم سيستمرون فى غيهم ويمضون فى المطالبة بفصل الدين عن السياسة.
على يحيى الهوارى يكتب:
هل هذه هى السياسة التى يريدها العالم ؟
الخميس، 29 يناير 2009 11:29 ص