◄هل سيتفادى البابا التعرض للعديد من الشخصيات التى اشتهرت بدورها المحورى فى الأزمة مع السادات بداية من الأب متى المسكين حتى شوقى كراس؟
◄ البابا شنودة رد على قرار السادات بتشكيل لجنة لإدارة الكنيسة ساخرا: «إن كرسى مار مرقص ليس دكة حتى يُجلس عليها السادات خمسة من الرهبان»
◄هل سينجح البابا فى الإجابة عن سؤال: لماذا صفق نواب البرلمان بشكل حاد على قرار إلغاء القرار الجمهورى بتنصيبه بينما صمتوا تماما بعد سماع القرارات الأخرى؟
يصيبنا القلق فى مقتل، حينما نسمع كلمة «مذكرات»، وتبتهج آذاننا لاقتراب موعد سماع مفاجآت جديدة أو بعض من النميمة التى تغذيها، نخشى على صاحبها من شرفة شقة بطابق علوى، أو سيارة مسرعة فى الطريق العام، أو من أى تهديد يبدأ صوتا وينتهى بفعل مؤلم، هذا حال أهل الشارع من المواطنين، أما الكبار، خاصة ممن تربطهم علاقة بعيدة أو قريبة بالشخص صاحب «المذكرات»، ينتفضون وكأن عقربا لدغهم، وقد تتسبب سيرة المذكرات فى خلق حالة زيارة متكررة للحمام بسبب القلق، خوفا من سطر قد يختفى بين صفحات تلك المذكرات، يكشف بعضا من المستخبى، أو يذكر ببعض مما قد نسيه الناس.
يحدث كل هذا وأكثر، لأننا فى مصر لم نعتد كثيرا على حكاية المذكرات الشخصية هذه، يهرب منها كبار رجال الدولة وكأنها فعل من أفعال العيب، وحتى حينما تنتهى حياتهم المهنية وتقترب مدة بقائهم الزمنية من منحنى الانتهاء، يبخلون على الناس بسطور تحكى لهم كواليس ما دار فى الماضى، اعتمادا على الحجة المصرية الساذجة «المذكرات التى ستأتى من بين صفحاتها ريح المشاكل، قطعها واسترح، أو لا تكتبها من الأصل»، على هذا الأساس تصرف الكثير من كبارات مصر، غافلين عن حق الناس فى المعرفة، وذهبوا إلى قبورهم بصحبة أسرار ومعلومات قادرة على إصلاح عوج بعض الأحداث التاريخية، بنفس قدرتها على كشف زيف بعض الشخصيات التى يظنها الناس ملائكة.
بهذا المنطق القلق والمشكك استقبل الكثيرون خبر استعداد البابا شنودة لتدوين مذكراته الشخصية، وجاءت أغلب التعليقات على الخبر الذى انفردت «اليوم السابع» بنشره العدد الماضى، ونقلته المواقع الإلكترونية القبطية، لتعبر عن خوفها على البابا من تلك الفكرة، وتشكك بقوة فى صحة إقدام البابا على تلك الخطوة على اعتبار أنه رجل لا يحب المشاكل، بينما سبق البعض الأحداث، وأعلنوا انتظارهم لكثير من الحكايات التى ستكشف حقيقة شخصيات كبرى داخل الدولة وداخل الكنيسة، وتوقع آخرون أن الفترة القادمة قد تشهد ضغطا على البابا للامتناع عن تلك الفكرة سواء من داخل الكنيسة أو من الدولة، أو على الأقل ضمان مسار سلمى وشخصى لصفحات تلك المذكرات.
وبعيدا عن ردة الفعل المتفاعلة مع خبر استعداد البابا شنودة لكتابة مذكراته من جانب القراء، كان من الطبيعى جدا أن يثير خبر كهذا فضول الكثيرين واهتمامهم وقلقهم أيضا نظرا لأهمية البابا شنودة على الصعيدين الكنسى والسياسى، كواحد من الشخصيات النادرة التى يرى فيها الشعب المصرى- مسلمين ومسيحيين -كاريزما خاصة تذكرهم بشخصيات الزمن الجميل، فهو بالنسبة للمسيحيين رمز دينى مقدس والبابا القوى الذى نجح فى خلق نوع من الندية فى التعامل بين الكنيسة والدولة، وبالنسبة للمسلمين هو النموذج المأمول لرجل الدين، الذى لا يخشى فى عقيدته لومة لائم، والرجل القوى الذكى صاحب المواقف الوطنية المشرفة، وتصرفاته محل تقديرهم، حينما يقارونها بما يفعله شيخ الأزهر.
إذا أضفت كل ما سبق عن أهمية شخصية البابا لملايين المصريين إلى تاريخ طويل، تملؤه صراعات دينية وسياسية وشخصية، ومعاصرة البابا شنودة للعصور السياسية الثلاثة، بداية من عبدالناصر حتى الرئيس مبارك، وضربتهم جيدا فى أهمية منصبه الدينى، تحصل على حبكة مثيرة تكفى لخلق كل هذا الاهتمام بمذكرات البابا شنودة، حتى ولو كانت عبارة عن هوامش مكتوبة على صفحات كتاب كان يقرؤه.
لم يُخيب البابا ظن الكثيرين، وجاء محددا كعادته فى نشر مذكراته عن الفترة الخلافية بينه وبين الرئيس الراحل أنورالسادات، ليضيف باسمه إلى المذكرات المنتظرة، مزيدا من توابل الإثارة والتشويق، خاصة أن صراع البابا مع الرئيس السادات مازال يتصدر المشهد رغم مرور أكثر من 30 عاما على بدايته، ورغم تفاصيله المنتشرة فى كتب الصغار قبل الكبار، فلابد أن البابا لديه الجديد، ولابد أن رواية أحد أطراف الصراع ستكون أكثر تشويقا من شهادة الشهود والمحللين.
تحديد البابا لتلك الفترة الزمنية كعمود فقرى لمذكراته، ربما لا يعود فقط لثرائها وأهميتها، ولكن لأن الفترة السابقة لصراع البابا مع السادات وتحديدا عصر عبدالناصر، كانت هادئة بشكل لا يغرى على تدوينها، فقد كان وقتها الأنبا شنودة فقط، ولم يكن قد جلس على الكرسى البابوى بعد، ولم يكن لدى عبدالناصر وقت لخلق صراع مع أقباط مصر، خاصة أن الكنيسة وقتها لم تحمل له أى خصومة سياسية، أما فيما بعد عصر السادات، وتحديدا عصر مبارك وعلاقته بالكنيسة والبابا، فهذا متوقع من البابا أو غيره، ففى مصر كتابة المذكرات الشخصية لا تتم إلا بشرطين، الأول أن يبلغ صاحبها من الكبر عتيا، ولم يعد يريد شيئا من الدنيا، والسبب الثانى ألا يكون الطرف الرئيسى فى الأحداث، وهو هنا الرئيس مبارك وكبار رجال الدولة، على قيد الحياة، وفى حالة البابا تحديدا ربما لا يكون الأمر بسبب الخوف من كشف حقائق قد تغضب هؤلاء الكبار، ولكن لأن شخصية البابا تدفعه للابتعاد عن أى شبهة تضعه فى خانة مدح النظام على كبر، خاصة أن مبارك صاحب فضل فى إعادة البابا لمنصبه، بعد قرار السادت بنفيه لوادى النطرون، كما أن البابا نفسه تورط أكثر من مرة فى تصريحات مؤيدة لحكم أبدى للرئيس على طول الخط.
الصراع مع الرئيس السادات وقصةعزله وإبعاده عن الكرسى البابوى، ونفيه لوادى النطرون، هو الخط الدرامى الرئيسى فى مذكرات البابا المتوقعة، المصادر المقربة للبابا شنودة، أكدت فى الخبر الذى نشرته« اليوم السابع» العدد الماضى، أن البابا استغل فترة نفيه إلى وادى النطرون فى تسجيل يومياته عن ذلك الصراع، فهل يعنى ذلك أن البابا شنودة قد يفاجئنا فى مذكراته الشخصية بتفاصيل جديدة عن الصراع، أو رؤية صادمة وجديدة للأحداث، على اعتبار أننا اعتدنا البابا جريئا، واعتدنا من الكبار إعادة قراءة الأحداث الماضية بشكل مختلف تماما، مثلما فعل محمد حسنين هيكل، وأعاد قراءة شخصية الرئيس السادات وأنصفه بعدما كان قد أغرقه فى الخطأ من شعر رأسه حتى صوابع رجليه الصغيرة فى كتابه «خريف الغضب»؟، أم سيكون البابا دبلوماسيا كعادته، ويكتفى بما لدى الناس من تفاصيل الصراع، ويعتمد هو على تسجيل الجانب الروحانى للأزمة فقط؟.
هل سيكتب البابا مذكراته بالشوكة والسكينة، لتفادى حقول الألغام المنتشرة فى تلك الفترة الزمنية، وتحديدا فترة الصراع مع السادات؟، بمعنى آخر، هل سيتفادى البابا التعرض للعديد من الشخصيات التى اشتهرت بدورها المحورى فى تلك الأزمة، بداية من الأب متى المسكين، والسيد حسنى مبارك، الذى كان نائبا للرئيس وقتها، وشوقى كراس وقادة أقباط المهجر، وغيرهم من الشخصيات الكنسية والسياسية أم سيكون البابا واضحا وجريئا كعادته؟
عموما الإجابة سنجدها كاملة فى مذكرات البابا الشخصية، ولكن تعالوا نعود قليلا للوراء، إلى خلفيات صراع البابا مع الرئيس أنور السادات، لنكتشف أن تجاوز تلك الشخصيات المهمة، وخلافاتهم مع البابا، سيجعل من المذكرات أوراقا ماسخة بلا طعم، كما أن تفاصيل الصراع نفسها ستؤكد لك أن البابا لن ينجح فى محو تلك الشخصيات من مذكراته، لأنهم جزء أصيل من الصراع الذى وصل إلى ذروته، حينما وقف الرئيس الراحل أنور السادات أمام البرلمان ليعلن قرارته السبتمبرية الغاضبة فى 8 بنود، يخصنا فيها الآن البند الثامن، والذى قال فيه الآتى وبالنص: (إلغاء قرار رئيس الجمهورية 2782 لسنة 81 بتعيين البابا شنودة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وتشكيل لجنة للقيام بالمهام البابوبية من خمسة من الأساقفة هم: الأنبا ماكسيموس أسقف القليوبيبة وهو عالم قبطى سبق أن ترشح للكرسى البابوى، الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامة وكنائس المهجر، وكان مرشحا سابقا للكرسى البابوى، وفاز بأغلب الأصوات.الأنبا أغريغريوس أسقف البحث العلمى والدراسات القبطية العليا، ومدير المعهد العالى للدراسات القبطية، الأنبا إسناسيوس أسقف بنى سويف، وهو يشغل حاليا منصب وكيل الهيئة العليا للأوقاف القبطية وسكرتير سابق للمجمع المقدس، الأنبا يؤانس أسقف الغربية والسكرتير الحالى للمجمع المقدس وذلك لكى لا تبقى الكنيسة بدون من يمثلها لدى الدولة.. القرار خلص ولكن أحب أن أوضحه.
أجريت هذا بعد أن استشرت المخلصين للبلاد والكنيسة، وعلى هؤلاء الأساقفة سرعة معالجة الشعور القبطى فى الداخل والخارج، وكسر روح التعصب والحقد، وبث روح المحبة والسلام، وعلى هذه اللجنة أن تتقدم للدولة بكل الاقتراحات المناسبة لإعادة الكنيسة إلى وضعها التقليدى الأصيل، كنسيج حى فى جسم الدولة، وترشيد روح المحبة والحكمة والوداعة والصبر تجاه جميع الطوائف، والتى كانت فيه رائدة لكل كنائس العالم).
انتهى نص خطاب الرئيس السادات الذى توج الصراع بينه وبين البابا شنودة، ولكن الشىء الأغرب فى الخطاب، أن البند الثامن فقط والخاص بعزل البابا شنودة، هو الوحيد الذى حصل على تصفيق حاد من نواب البرلمان وقتها، وصار لغط شديد فى ذلك الوقت أن النواب الأقباط فى البرلمان وعددهم وقتها 21، كان لهم دور فيما حدث، سعيا لإرضاء السادات على حساب البابا، وأن صراعا شديدا دار داخل الكنيسة فى محاولة لتفهم رد فعل النواب، الذين اجتمعوا قبل هذا القرار بشهور مع الرئيس السادات، كما هو مثبت تاريخيا فى 24 ديسمبر سنة 1980 بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاده، وحضر الاجتماع عثمان أحمد عثمان، وكان الاجتماع داخل غرفة معلق بها صورة لمطران المنوفية «الأنبا شنودة»، ونظر السادات للصورة وقال: (الولد ده كنت باحبه ولكن دلوقتى لأ)، وهاجم البابا شنودة دون أن يذكر اسمه، فقالت له إحدى الحاضرات: يا ريس، إذا كنت عملت مبادرة مع إسرائيل، ماتقدرش تعمل مبادرة مع الكنيسة؟
فرد قائلا: «أنا باحب الأقباط والأقباط بيحبونى، إنما أنا ضد راجل واحد فيهم».
هدف السادات كان واضحا جدا.. رأس البابا شنودة، والأمر الأكثر وضوحا أن الرئيس السادات خطط للأمر بذكاء، ومن قبل حدوثه بفترة طويلة، ووضح ذلك فى هذا الاجتماع الاستباقى مع النواب الأقباط قبل خطاب العزل بشهور طويلة، المفاجأة هنا ليست فى حسن تخطيط السادات، بل فى تجاوب النواب الأقباط، الذين سمعوا بآذانهم رأى السادات فى البابا، ولم يدركوا مصيره، أو أنهم أدركوا وتواطأوا، وهنا تحديدا تكمن أول معركة اشتباك متوقع أن يخوضها البابا فى مذكراته.عموما إذا كان هذا القرار الذى اتخذه السادات بنفى البابا شنودة إلى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون، هو ذروة الصراع، فأين توجد البدايات؟ وما هى الأسباب؟.
الواضح أن العام 1972 هو البداية الحقيقية لهذا الصراع طبقا لرواية سابقة للأنبا غريغوريوس، أسقف البحث العلمى بالكنيسة الأرثوذكسية وواحد من الذين اختارهم السادات لإدارة الكنيسة، عقب عزل البابا، الذى أشار إلى أن أحد المديرين التابعين لوزارة الأوقاف فى مدينة الإسكندرية أرسل تقريرًا إلى وزير الداخلية، وكتب عليه: عاجل وسرى جدا، قال فيه: إن البابا عقد اجتماعا على نطاق ضيق، مع عدد من الشخصيات القبطية العامة، وتحدث فى أمور سياسية، وعن أوضاع الأقباط، وأنهى مدير الأوقاف تقريره بعبارة:«اصحوا يا مسلمين.. انتبهوا يا مسلمين«.
وانتشر هذا التقرير بسرعة فى بعض المساجد، ونتج عنه أحداث طائفية، وكونت الحكومة لجنة تقصى حقائق من أعضاء مجلس الشعب، برئاسة الدكتور جمال العطيفى للتحقيق فى الأمر.
واعتقد الجميع أن الأمور قد انصلحت، إلا أن بعض المسئولين أكدوا للبابا أن الرئيس السادات مقتنع تمامًا بكل ما جاء فى التقرير، وأنه استقر فى قلبه وعقله أن البابا يحاول تكوين زعامة سياسية له بين الأقباط،لدرجة انه قال وقتها: «أنا عايز أعرف هو أنا اللى باحكم البلد، ولا شنودة».
مرة أخرى يحدد السادات هدفه.. رأس البابا شنودة، غير أن الشرخ الحقيقى فى حائط العلاقة بين البابا شنودة والرئيس السادات حدث بعد ذلك بعدة أعوام وتحديدا فى تلك الفترة التى بدأت فيها مفاوضات الصلح مع إسرائيل، وهى للمصادفة نفس الفترة التى شهدت شرخا فى العلاقة بين الرئيس السادات والشعب المصرى كله.
وفى خلال تلك السنوات التى سبقت قرار السادات السبتمبرى بعزل البابا شنودة، تكونت عدة أسباب مهدت للسادات طريقا يصل بغضبه إلى ذروته، ويمكن تلخيصها فى الآتى:
◄ موقف البابا من كامب ديفيد ورفض السفر بصحبة الرئيس.
◄ مظاهرات أقباط المهجر ضد السادات أثناء زيارته لأمريكا.
◄ زيارة البابا للولايات المتحدة سنة 1977 ولقاؤه الخاص مع الرئيس كارتر.
◄ رفض البابا استقبال القيادات السياسية للتهنئة بأعياد القيامة.
◄ رفض إذاعة الاحتفال بالأعياد فى أجهزة الإعلام كما جرت العادة وقتها.
◄ تقدم البابا شنودة لمسيرة رهبان بعد حادث كنيسة الخانكة.
◄ أحداث الزاوية الحمراء الطائفية.
وأضف إلى تلك الأسباب عاملا آخر مهما ذكره محمد حسنين هيكل فى كتابه «خريف الغضب» حينما كتب يقول: (المسرح كان مهيأ لدور يقوم به رجل يستطيع أن يتحمل مسئولياته، وكان شنودة يملك الكثير من المقومات اللازمة فهو كان شاباً ومتعلما وكاتبا وخطيبا متمكنا وكانت شخصيته قوية إلى جانب كثير من صفات الزعامة وقوة احتمال ومثابرة لا شك فيها).
هذه الكاريزما التى تحدث عنها هيكل وحالة النشاط التى تمتع بها البابا شنودة، ومواجهته الدائمة للرئيس السادات من أجل مطالب الأقباط، بل وتحدى السادات فى الكثير من الأوقات كانت السبب الأقوى فى ذلك الصراع لأن الرئيس السادات وقتها كان خارجا من معركة أكتوبر منتصرا وأكثر ثقة فى نفسه، وأكثر رغبة فى الانفراد بالقرار ولم يكن يتخيل أن يتحداه أحد أو يرفض له طلبا، وهو الشىء الذى فعله البابا شنودة حينما سجل رفضه لاتفاقية كامب ديفيد ورفض الذهاب إلى إسرائيل عام 1977واستغل هذا الموقف السياسى فى كسب تعاطف الناس ومحاولة الضغط على السادات لتمرير بعض المطالب القبطية.
هذا التحدى الذى لم يعجب الزعيم المنتصر، عاد البابا شنودة وكرره أكثر من مرة حينما تجاهل استغاثة السادات بإيقاف مظاهرات أقباط المهجر أثناء زيارته لأمريكا، حيث استقبلوه هناك بمظاهرة رفعوا فيها لافتات تصف ما يحدث للأقباط فى مصر بأنه اضطهاد وهو الشئ الذى لم يعجب الرئيس الحريص على «برستيجه« الخارجى، فطلب الاتصال بالبابا من أجل إيقاف المظاهرات، وحدث هذا فعلا ولكن بشكل متأخر بعض الشىء، مما دفع السادات للظن بأن البابا «شنودة» يتحداه، فأصدرت أجهزة الأمن قرارا للبابا بأن يتوقف عن إلقاء درسه الأسبوعى، ورفض البابا ثم قرر تصعيد الأمر بأن أصدر قرارا بعدم الاحتفال بالعيد فى الكنيسة وعدم استقبال المسئولين الرسميين الذين يوفدون من قبل الدولة عادة للتهنئة،بل وصل الأمر إلى ذروته عندما كتب فى رسالته التى طافت بكل الكنائس قبيل الاحتفال بالعيد أن هذه القرارات جاءت «احتجاجا على اضطهاد الأقباط فى مصر»، وكانت هذه المرة الوحيدة التى يقر فيه البابا علانية بوجود اضطهاد للأقباط فى مصر ولم يفعلها بعد ذلك مطلقا.
وطبقا لما قاله المهندس «أرميا لاوندى» أحد مؤسسى الهيئة القبطية بأمريكا فى حوار له على موقع الأقباط المتحدون، فإن غضب السادات من أقباط المهجر كان سببا رئيسيا فى عدوانه على البابا، حيث ذكر لاوندى ما حدث فى إجتماع الرئيس السادات بالبابا سنة 1976 فى القناطر الخيرية قائلا: (كان السادات ثائراً وأعطى لسيدنا البابا مجلة من مجلات الهيئة القبطية وقال لقداسته: شوف أولادك بيعملوا إيه فى أمريكا، وكان رد سيدنا البابا المعروف بذكائه وحنكته: إن ذلك كله من قصاصات أوراق جرايدنا ونحن هنا فى مصر قد أعطيناهم المادة لكى يكتبوها وينشروها).
السادات كان يرى فى تصرفات البابا معه تحركات استفزازية، فقرر أن يتبع معه نفس الأسلوب، فكما يحكى هيكل فى كتابه «خريف الغضب» أن السادات كان فى زيارة للكنيسة ونظر إلى ساعته أثناء اجتماعه مع البابا وأعضاء المجمع المقدس وقال موجها كلامه إلى البابا شنودة لقد حان موعد صلاة الظهر وأريد سجادة صلاة،وأسرع شنودة بنفسه إلى غرفة مجاورة وجاء بسجادة صغيرة فرشها وسط مكتبه للسادات وخرج الكل من القاعة، ولكن شنودة لم يخرج وإنما وقف بعيدا وقد شبك يديه أمام صدره فى خشوع وانتظر السادات حتى أتم صلاته،كان السادات ينظر إلى البابا ويحاول تقدير ردة فعله، فهو حاول استفزازه، لكن شنودة كما روى السادات كان «ناصح وغويط« طبقا لنص كلامه، ومع ذلك فقد وافق السادات للبابا شنودة على ضعف عدد الكنائس التى اتفق عليها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر مع بابا الأقباط السابق كيرلس، وعندما لاحظ السادات دهشة المستمعين إليه، رد بقوله:«شنودة ظل طول الوقت يقول لى أنت رئيسنا وأنت زعيمنا وأنت رب العائلة».
أفصح السادات فى جملته الأخيرة هنا عما يريده من البابا شنودة، ولكن البابا شنودة لم يفهم ذلك أو ربما تفهم جيدا ولكنه لم يصغ أو لم يعجبه أن يسير مع السائرين فى ذيل السلطان، فقرر السلطان أن يقضى على الرجل الذى تجرأ وقرر مواجهته، وتشويه صورة حكمه، بدعوى اضطهاد الأقباط وهى الصورة التى لم يكن السادات يسمح بانتشارها خارجيا بعد أن وضع نفسه فى إطار الزعيم الملهم، وبعد أن أطربه مديح الإعلام الغربى عقب إتفاقية السلام، ولم يكن مستعدا أن يسمع من أحد، حتى ولو كان البابا شنودة، أى انتقاد، كما أنه لم يكن على استعداد لأن يتحمل مجرد التفكير أن بمصر زعيما آخر غيره حتى ولو كان بابا الأقباط يتزعم شعب كنيسته، فأصدر قراره فى 5 سبتمبر 1981 بنفى البابا واعتقال 1536 شخصا حاولوا أن يفعلوا مثل البابا.
يتبقى منطقتان شائكتان، فى انتظار مذكرات البابا لمعرفة حقيقة موقفه منهما، شخصان الأول قيمة دينية كبيرة لدى الوسط المسيحى، والثانى رجل يتقلد منصب شديد الحساسية.. رئيس جمهورية.
كيف سيتعامل البابا مع الأب متى المسكين فى مذكراته وبينهما الخلاف الأشهر داخل الكنيسة، صحيح الأب متى توفاه الله، ولكن تناول دور رجل مثله فى الصراع بين السادات والبابا لن يكون أبدا بتلك السهولة التى تتخيلها، نظرا لقيمته، وغموض دوره فى الأزمة، لدرجة أن البعض اتهمه بأنه كان السبب وراء قرار نفى البابا، وأن الخلاف الذى ظل قائما بين الأب متى المسكين والبابا شنودة ترجع أسبابه إلى فترة صراع البابا مع السادات، المقربون من البابا يرون أن الأب متى المسكين استغل علاقته بالسادات للإضرار بالبابا والانتقام منه، وأنصار الأب متى المسكين، بل والأب متى المسكين نفسه يؤكد فى مواضع مختلفة من كلامه أنه حاول جاهدا مع السادات حتى لا يتخذ قراره بنفى البابا شنودة ولكنه رفض، فلأى اتجاه سينتصر البابا شنودة فى مذكراته؟ خاصة وهو صاحب الرد الشهير على قرار السادات واقتراح الأب متى المسكين بتشكيل لجنة خماسية لإدارة الكنيسة بعد نفيه إلى وادى النطرون حينما قال للأنبا صموئيل: (إن كرسى مار مرقص ليس دكة حتى يُجلس عليها السادات خمسة من الرهبان).
الشخص الثانى الذى ربما تغفل مذكرات البابا شنودة عن ذكره رغم دوره الواضح فى إدارة الصراع هو الرئيس حسنى مبارك والذى كان وقتها نائبا للرئيس، وحتى تدرك حساسية الموقف وما يفترض أن يقوله البابا عن الرئيس مبارك فى مذكراته ولن يقوله، تعال نعود إلى ظهر يوم سبت النور من سنة 1980 أى قبل قرار نفى البابا بشهور وعن ذلك اليوم نشر القس أغسطينوس حنا فى مجلة مار يوحنا الصادرة بكاليفورنيا عدد ديسمبر 2006 يقول:(كانت مقابلتنا للسيد حسنى مبارك دون أى ترتيب سابق..استقبلنا وقتئذ بوجه جاد ولكن لا يخلو من ابتسامة ترحيب خفيفة وأشار لنا بالجلوس، وبدأ المرحوم الأستاذ عدلى عبد الشهيد المحامى وعضو مجلس الشعب بالحديث وقال: سيادة النائب معذرة للحضور بدون ميعاد سابق ولكن مجيئنا فى الحقيقة هو لتفادى كارثة كبيرة وهو بخصوص الأزمة الطارئة بين الرئيس أنور السادات وقداسة البابا شنودة... فالرئيس السادات غاضب جدا لأنه اعتقد أن قرار البابا والمجمع المقدس بإلغاء الاحتفال الرسمى بعيد القيامة مقصود به إثارة العالم الخارجى ضده وضد مصر، وكما قال الرئيس ان أعداء البلد يتربصون بنا، فنحن نستطيع تفويت الفرصة عليهم والوقت لم يفت بعد فالساعة الآن الواحدة بعد الظهر والدير على بعد ساعة ونصف منا، فإذا وافقتم على إرسال مندوب رسمى عن الرئيس معنا إلى البابا وحددتم موعدا لمقابلة مباشرة بين سيادة الرئيس وقداسة البابا الساعة الخامسة أو السادسة مساء اليوم وهما كانا دائما على علاقة طيبة فإذا تقابلا لمدة ساعة واستمع الرئيس لشكوى البابا فسوف يعذره ويعودان كالسمن على العسل ويصلى البابا قداس العيد فى موعده كالمعتاد ويذيع التليفزيون وتنتهى الأزمة على خير ونفوت على أعداء البلد فرصتهم لعمل تصدع داخلى».
ورد السيد حسنى مبارك الرجل المعروف بهدوئه، بثورة غضب شديدة قائلا: (لا لا سيبك من الكلام ده. مش احنا اللى نتحرك تحت لوى دراع فأنتم دايما تصطنعون هذا التوقيت كلما ينوى الرئيس الذهاب الى أمريكا تعملوا أنتم فرقعة لتهييج الأقباط فى أمريكا لإحراج الرئيس والاساءة لسمعة مصر فى الخارج. روحوا قولوا للبابا أن هذا ليس فى مصلحته ولا فى مصلحة الأقباط وأن الرئيس أنور السادات غاضب وثائر جدا. البابا مش صغير وكان يجب أن يعرف أن تصرفاته لها ردود فعل وأبعاد كبيرة فى الداخل والخارج. لو كان قسيس ولا مطران كنا التمسنا له العذر أو تغاضينا عن تصرفه، ولكن البابا يعمل ده كله عشان شوية بنات ماشيين على حل شعرهم).
بالتأكيد علم البابا بتفاصيل ذلك اللقاء الذى استمر على نفس الوتيرة، النائب حسنى مبارك يهاجم البابا شنودة ويتهمه بأنه يسعى لإغضاب الرئيس السادات وأنه السبب فى المشاكل الموجودة بين الرئيس والكنيسة، والوفد الموجود يحاول تهدئة الجو، فهل سيتغاضى البابا عن ذلك الاتهام ويسقطه عمدا من مذكراته، أم أنه سيرد على اتهامات الرئيس حسنى مبارك، ويكون للرئيس الحالى عدة صفحات خاصة به وبدوره فى الأزمة بين البابا والرئيس السادات داخل مذكرات البابا شنودة وتنكسر القاعدة القائلة بأنه لا تجوز الكتابة إلا على من حصل على لقب راحل؟!
لمعلوماتك...
◄1923 ولد البابا شنودة فى محافظة أسيوط
◄2782 قرار رئيس الجمهورية بتعيين البابا شنودة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة