لم يكن يعرف أن مسافة 160 كيلو مترا قطعها سفرا من بلدته إلى دار الإفتاء ليست كافية لإقناع الشيخ الجالس أمامه بأنه يحتاج إلى ورقة صغيرة من الشيخ مذيلة بختم اللجنة، كانت همه الشاغل على مدار أيام مضت، إلا أن الشيخ أبى أن يعطيه إياها متعللا بأن المسألة لا تحتاج إلى أوراق مكتوبة بقدر ما تحتاج إلى اقتناعه بصحة الفتوى، وأمام الإلحاح لم يجد الشيخ بدا من الاعتراف بأن عصر الفتاوى المكتوبة انتهى إلا فيما ندر، طالبا منه أن يأتى بأطراف النزاع جميعهم أمامه. لكى يسمعوا الحكم الشرعى ويقتنعوا به.
نزاع بين كريم وإخوته حول تنفيذ وصية والدهم بإخراج جزء من ثروته لعمل مشروع خيرى بعد مماته، إلا أن أحد الأشقاء رفض هذه الوصية ولم يصدقها، وهو ما دفعه إلى التقدم لدار الإفتاء لتبين له حكم الدين فى إنكار الوصية طالما لم تخالف الشرع.
المسألة لم تختلف كثيرا مع عصام، الذى ذهب إلى لجنة الفتوى ليسأل أحد شيوخها أن يعطيه فتوى مكتوبة فى إحدى مسائل المواريث، وبدأ رحلته بدار الإفتاء إلا أن الشيخ قال مثلما قال زميله من قبل بأن عليه إحضار جميع أطراف المسألة إلى الدار ليعطهم فتوى صريحة، وليست مكتوبة أيضا.
"لقد جئت إلى هنا لكى أسأل عالما متخصصا ولم أرغب فى سؤال أحد دعاة الفضائيات أو أى من المشايخ بعيدا عن الأزهر" .. مبررات عصام هذه لم تقنع الشيخ الجالس فى لجنة الفتوى الذى بدا وكأنه لن يقتنع إلا بحضور جميع الأطراف أيضا، فلم يجد أمامه سوى إعادة المحاولة فى دار الإفتاء المصرية، ولكن قابله الشيخ فى الدار بأن احتد عليه وكاد يتشاجر معه، وأخبره بأنه إذا أراد فتوى عامة فى أحد المسائل فعليه الدخول إلى موقع الدار على الإنترنت ويرسل فتواه، وستتولى الدار الرد عليه عبر الموقع أيضا.
"يجوز ولا حرج عليكم فى اللجوء للقضاء"، تلك هى الإجابة التى حملها موقع دار الإفتاء على مسألة لسيدة مسنة من المنيا لا تستطيع تحمل مشقة السفر، فقررت أن ترسل شخصا بدلا منها ليحصل لها على فتوى فى مسألة ميراث دون أى تفاصيل أو توضيحات عن ماهية المسألة وفروعها، لتتساءل فى يأس إذا لم يحصل الشخص على معلوماته الدينية من المشايخ المعتمدين، فمن أين يستقيها إذاً؟ وهو ما يدعو للتساؤل أيضا أليس هذا سببا مقنعا لفتح باب التضارب فى الفتوى؟
أفرغ الشيخ عبد الحميد الأطرش، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر غضبه على من يتهم لجنته بالامتناع عن إعطائه فتاوى مكتوبة، متهما إياه بالكذب وتبريره فى ذلك أن كل محافظة بها لجنة فتوى تابعة للأزهر، فلا حاجة لأن يأتوا إلى الجامع الأزهر للحصول عليها، وعندما واجهناه بأن بعض الناس يختارون الحضور إلى القاهرة طمعا منهم فى الحصول على جواب شاف وزيادة فى الثقة، تراجع قائلا إن كل الموضوعات بها فتاوى مكتوبة بدءا من المواريث والرضاعة ووصولا إلى الفوائد البنكية، ماعدا الأمور محل النزاع، مضيفا إذا ما كانت المسألة شائكة يتم تحويلها إلى لجنة البحوث الفقهية.
الخوف من الاستدراج هو عنوان المسألة الكبرى التى تخشاها جهات الإفتاء الرسمية، خشية أن ينسب لها حكم شرعى لإسقاطه على أمور أخرى أو حتى أن يستخدم دليلا ضد طرف لا تحتمل تلك الجهات غضبه، وأصبح باديا على أسلوب جهات الفتوى، التى بدورها تتحسس رأسها بمجرد أن يطلب منها فتوى بشأن ما يخص السلطة وتعاملاتها أو الاقتصاد أو الفن أو السياسة، وهو ما اعترف به مصدر من داخل لجنة الفتوى، قائلا "هناك الكثير من الأسئلة التى ترد إلينا تتصل بأمور سياسية لا يجد الشيخ نفسه إلا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يرفض أن يجيب عنها أو يعطى فتوى من اجتهاده، وحينها يستخدمها الإعلام – على حد قوله – كوسيلة للتشهير بالسلطة والطعن على سياستها مثلما حدث فى فتاوى تناولت التوريث أو التعامل مع إسرائيل، مستطردا أن هذا ينعكس أيضا على صورة جهات الإفتاء الرسمية إذا ما كانت الفتوى ضد رغبة الرأى العام، إلا أنه نفى أن تكون هناك تعليمات بالامتناع عن فتاوى بعينها، ولكنه كشف عن وجود رقابة ذاتية لدى بعض الشيوخ خوفا من العواقب.
رفض الدكتور إبراهيم نجم مستشار دار الإفتاء هذا الطرح، نافيا أن يكون لدى المفتين حساسيات تجاه أية مسائل ولا صحة للخوف من أمثلة سابقة لفتاوى كتبت واستغلت بأى شكل، إلا أنه شدد على أن من يفتى من حقه الامتناع عن إعطاء فتوى مكتوبة إذا ارتأى فيها نزاعا يحتاج إلى الاستماع إلى جميع الأطراف، مؤكدا على أن استكمال الفتوى لأركانها هو المقياس الوحيد لإثباتها.
وعلى الرغم من وجود قسم للفتاوى المكتوبة بدار الإفتاء بجانب القسم الشفوى، إلا أن الرد بأن "عدم الاختصاص" يستخدم كثيرا كوسيلة للتهرب من بعض الفتاوى، إلا أن نجم قال إن عدم الاختصاص، لا يعنى الرفض دائما، فربما تؤجل الفتوى المطلوبة للدراسة أو للعرض على لجان داخل الدار لمناقشتها.
أفتونا مأجورين.. إذا كان هذا هو شعار من يطلب فتوى، فالخوف أن يأتى يوما يكون شعار المفتين فيه "أفتيناكم خائفين" فتدخل الإفتاء فى السياسة وانسحابها منها حين تشاء، صنع خوفا لدى رجالها من الإفتاء فى الأمور الخاصة، خوفا من أن يسمعها العامة وكأنما يحتاج الفتوى لكل هذا الحياء.
معلومة:
500 فتوى شفوية تصدرها دار الإفتاء المصرية يوميا
بعد الجدل الذى أثارته فتاوى التوريث والغاز .. وخوفا من التوريط السياسى
دار الإفتاء والأزهر تمتنعان عن الفتاوى المكتوبة
الخميس، 22 يناير 2009 11:40 ص
إثارة جدل بعد فتاوى التوريث والغاز
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة