ما يعرفه الإسرائيليون جيدا،ً لكنهم يتجاهلونه اليوم، هو الفارق بين ميليشيا مؤقتة يمكن قصفها إلى طاولة الاستسلام، وحركة دينية أيديولوجية تضرب بجذورها فى عمق المجتمع، كلما قصفتها من يمين ومن شمال ومن أعلى امتدت جذورها إلى أسفل كى تولد من جديد وهى تنوء بفاكهة أحلاها حنظل وألذها علقم. وما لا يعرفه الإسرائيليون لكنهم يتعلمونه اليوم أنه كلما ازدادت ضغوطهم على من يصفونهم بحكام «الأنظمة المعتدلة» ازدادت الفجوة بين تلك الأنظمة وشعوبها بشكل مخيف وأن هذه الفجوة ستأكلهم هم أول ما تأكل.
واحد من الذين عملوا معى فى قناة الجزيرة، وهو صحفى أجنبى، انتقل بعد ذلك للعمل منتجاً للأخبار فى شبكة سى إن إن. ذات يوم، وصلته رسالة بالبريد الإلكترونى من رئيس التحرير يقول له فيها: «إلى أن تكون هناك دولة اسمها فلسطين فإنه ليس من سياستنا أن نستخدم فى تقاريرنا كلمة فلسطين». ولأن جورج بوش الصغير نفسه وحكام إسرائيل نفسها لا يجدون غضاضة فى استبدال تعبير «الأراضى الفلسطينية» بكلمة «فلسطين» فقد استغرب الزميل الصحفى لأول وهلة ثم اضطر، مثل كثيرين غيره، أن يحافظ على أكل عيشه. فى لحظات بعينها، لحظات المصير والأحداث الكبرى، تتساقط الأقنعة فتنكشف للعيان الوجوه الحقيقية للدول وللمؤسسات وللأفراد. فى لحظات بعينها يبين للناس أين تقف مهما حاولت أن تمسك العصا من المنتصف. فى لحظات بعينها يرحمك الله فيبتليك ببلوى تفتح عينيك على حقيقة ما حولك ومَن حولك فتدرك عندها فجأةً الفارق الحاسم بين الأخ وابن العم والصديق والمدعى والمنافق والعدو. ربما تصيبك عندئذٍ صدمة، لكن للحقيقة دائماً ثمناً غاليا،ً وهب الله البعض منا طاقة التقليل من فداحته وشمل البعض الآخر برحمته الواسعة.
فى لحظات بعينها ندرك فجأةً لماذا أحب الإسرائيليون والأمريكان نموذج السادات (بغض النظر عن موقفك منه) واحتفلوا به ولا يزالون، ولماذا كرهوا نموذج عبد الناصر (بغض النظر عن موقفك منه) وحاربوه ولا يزالون. فى هذه اللحظات ندرك فجأةً معنى أن يجد عبد الناصر فى قلبه ما يكفى من الشجاعة كى ينزل إلى الشارع بعد ساعات من شر هزيمة عسكرية مخزية فيحصل على شرعية جديدة من أهله وناسه. تُرى لو حدث لدولة عربية اليوم نصف ما حدث لنا فى يونيو 1967 أين يتوجه حاكمها؟ إلى الشارع؟ أهله وناسه؟ أم إلى واشنطن؟ أم إلى تل أبيب؟ فى لحظات بعينها تنغلق أمامك كل الأبواب فتلتفت حولك فلا تجد إلا باباً واحداً لا ينغلق أبداً، ولا حتى فى وجه الكافر: باب الله. وفى بعض الأحيان يكون معيار حكمك فى هذه الأيام على مدى الفجوة بين الحاكم والمحكوم عدد الذين أقبلوا فجأةً على باب الله.
فى ظل حالة من الغربة فى أوطانهم، فى ظل ما يرونه ظلماً جائراً وامتهاناً للكرامة، فى ظل تراجع ثمن الإنسان العربى أينما كان، فى ظل ضياع الأرض وشح الزاد وقلة الحيلة، فى ظل قيادات بينها وشعوبها ما بين السماء والأرض، فى ظل حملة يسميها الأمريكيون والإسرائيليون حرباً على الإرهاب ويرونها هم حرباً على الإسلام، فى ظل هذا وذاك وغيره لم يبق أمام الناس إلا باب الله وباب التاريخ وما أوفر التاريخ فى بلاد الشام.. من مسرى محمد صلى الله عليه وسلم فى بيت المقدس إلى عين جالوت فى فلسطين، حيث سُحق التتار غزاة بغداد إلى مثوى قائد المسلمين الأوائل المظفر سيف الله المسلول خالد بن الوليد فى حمص إلى مثوى خليفته أبى عبيدة بن الجراح الذى يفصل، يا للمفارقة، بين المسلمين فى الأردن واليهود فى فلسطين المحتلة إلى مصد الصليبيين قلعة عجلون فى ربوع الأردن إلى قلعة قاهرهم الأسطورى صلاح الدين الأيوبى فى دمشق. فى هذه اللحظات يتحول المُعرِض إلى مُقبِل ويتحول المُقبِل إلى معتدل ويتحول المعتدل إلى متشدد ويتحول المتشدد إلى أصولى ويتحول الأصولى إلى متطرف ويتحول المتطرف إلى إرهابى. وفى هذه اللحظات أضع كفى على قلبى وأنا أستحضر نبوءة مصطفى ست مريم نصر، المعروف أيضاً باسم أبو مصعب السورى، التى خطها ضمن استراتيجية متكاملة لتطور مراحل الحركة العالمية للجهاد الإسلامى.
تنقسم هذه فى رأيه إلى ست مراحل. فأما المرحلة الأولى فهى ضرب أمريكا فى عقر دارها، واستدراجها إلى بلاد المسلمين (وقد تحققت بالفعل). وأما المرحلة الثانية فهى منازلة الأمريكيين أينما حلوا فى بلاد المسلمين (و قد تحققت بالفعل) تمهيداً للمرحلة الثالثة، وهى بناء قاعدة جهادية فى الدول المحيطة بإسرائيل (و هى فى طور التحقق). أما الباعث على القلق من وجهة نظر البعض، أنه حين تحدث عنها لم تكن أى من هذه المراحل قد بدأت ولا كانت تخطر على البال.
سيزيد قلق البعض عندما يعلمون طبيعة المراحل الثلاث الأخرى التى يحدد أبو مصعب السورى لبدايتها الفترة الواقعة من عام 2010 إلى عام 2020. ففى المرحلة الرابعة يعمد المجاهدون إلى الاشتباك مباشرةً مع العدو الإسرائيلى انطلاقاً من الدول المحيطة وهو الأمر الذى ستقاومه الأنظمة الحاكمة فى هذه الدول مما يؤدى إلى تعريتها أمام شعوبها ويمهد لثورات شعبية تأتى بأنظمة، إما إسلامية أو على الأقل لا تقف فى وجه الإسلاميين لصالح أعداء الإسلام. (للمرحلتين الخامسة والسادسة حديث آخر).
أخشى أن كثيراً من ملامح هذه المرحلة الرابعة قد بدأ يتشكل على مدى السنوات القليلة الماضية: عودة كثير من «المجاهدين» خاصةً من أفغانستان والعراق والشيشان إلى بلادهم، ومن أهمها مصر وسوريا والأردن ولبنان، كى يشكلوا عضلة خبيرة مترقبة فى الدول المحيطة بإسرائيل. تفاقم سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية والقانونية فى هذه الدول ما دفع شرائح كبيرة من «المعتدلين» إلى باب الله ودفع بعضهم إلى دائرة التشدد. تفاقم الإحساس بغياب العدالة فى ظل تفاقم الفساد وانشغال الأنظمة الحاكمة فى هذه الدول بأمنها على حساب أمن الشعب وأمن الدولة. اضطرار هذه الأنظمة إلى التعاون فيما يوصف بـ «الحرب على الإرهاب» وتقديم مزيد من التنازلات على حساب شعوبها وعلى حساب المفهوم الأوسع للأمن القومى. اجتمعت هذه العوامل معاً، ومع عوامل أخرى، كى تزيد من إحساس الحاكم بعزلته بين من يُفترض أنهم أهله وناسه، وكى تسارع من ارتمائه أكثر وأكثر فى أحضان الغرباء وفى أحضان أعدائه ورعاة أعدائه. وليس من شأن هذا سوى نتيجة واحدة: اتساع الفجوة بين الحاكم والمحكوم إلى مساحة صارت مخيفة.
والذى لا شك فيه أن هذه الفجوة المخيفة عبرت عن نفسها بوضوح فى مواقف الأنظمة العربية من مذبحة غزة. فرغم أننا لا نعتقد أن هذه الأنظمة (معظمها على الأقل) تستمتع بمنظر الأطفال والنساء القتلى فإن ما يبدو أنها (معظمها على الأقل) لا تمانع فى ضرب عضلة إسلامية انتخبها شعبها بإرادته قبل أن تحترق بعدوى هذا النموذج. لكنّ ما هو خطير، عندما يتفق عنصر من أجندتك مع عنصر من أجندة العدو، أنك غير قادر على التحكم فى الأمور، وغير قادر على قراءة بقية أجندة العدو، وغير قادر على مواجهتها. الفجوة المخيفة بين الرعية والخليفة صارت بعد غزة أكثر رعباً، ووصلت إلى حد أن يرفع مواطن لافتة مكتوبا عليها «أصحاب الجلالة والفخامة والسمو.. إتفوو عليكم».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة