كيف نفهم هذه الأقوال؟ هل نعتبرها انفعالاً غاضباً، إزاء ما وقع لكاتب الرسالة على أيدى شيوخ الأزهر؟ أم نعتبرها نقداً صريحا ورأيا مطروحاً للنقاش؟!
فى الرسالة التى كتبها من باريس الشيخ على عبدالرازق لصديقه الدكتور طه حسين، لا نستطيع أن نمر مرور الكرام على تلك الروح الدنيوية المتحررة، التى عبر عنها الشيخ على بصراحة، لا ندرى هل نتحفظ إزاءها، أم نحسده عليها؟!
وكيف لا نتوقف أمام شيخ أزهرى، يتحدث عن مشايخ الأزهر فيقول :إنهم يشوهون صور الجمال التى تعمر الذهن فى باريس، ويقسم لو أنك «أخذت الشيخ بخيت، والشيخ شاكر فقط، وربطتهما فى حبل واحد، ودليتهما من فوق «تور إيفل»، لأظلمت بهما باريس من مشرقها لمغربها، وخيم النحس بشراشره عليها»!
وكيف لا نتوقف أمام هذا الشيخ وهو يقول لصديقه عن باريس متغزلا،ً «اخلع نعليك إنك فى الوادى المقدس، وارتع فى رياض النعيم حولك، واشرب من كؤوس اللذات دهاقاً».
كيف نفهم هذه الأقوال؟ هل نعتبرها انفعالاً غاضباً، إزاء ما وقع لكاتب الرسالة على أيدى شيوخ الأزهر؟ أم نعتبرها نقداً صريحاً، ورأياً مطروحاً للنقاش؟!
هل هى مجرد كتابة جاءت عفو الخاطر، يسترسل فيها صاحبها ويناجى بها صديق صديقه، الذى تفصله عنه الجبال والبحار، فى رسالة لم يكن الذى كتبها أو الذى كتبت له، يقدر أنها ستنشر على الملأ؟ أم أنها تعبير عن نزعة أبيقورية متأصلة؟
هل هى تعبير عن هوى شخصى، أم أن هذه الروح الدنيوية التى تموج بها الرسالة، كانت سائدة فى مصر فى الفترة التى كتبت فيها؟
فى أغسطس عام 1926، حين كتبت الرسالة كان كاتبها الشيخ على عبدالرازق شاباً فى الثلاثين من عمره أو بعدها بقليل، وكان قد تخرج فى الأزهر ليعين قاضياً شرعياً فى المنصورة، حتى رأى من واجبه أن يتصدى للقوى التى كاننت تتآمر على الدستور المصرى، الذى يفصل الدين عن السياسة، وتسعى لتنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين، وفى مقدمة هذه القوى شيوخ الأزهر، فأصدر عام 1925 كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، الذى أثار ثائرة هؤلاء الشيوخ، فعقدوا له محكمة تصدرها الشيخ بخيت والشيخ شاكر، اللذان جاء ذكرهما فى الرسالة، وانتهت بتجريده من شهادة العالمية، وسمحت للحكومة بفصله من وظيفته فى القضاء.
وفى ذلك التاريخ ذاته، تاريخ كتابة الرسالة، كان طه حسين أيضاً قد أصدر كتابه «فى الشعر الجاهلى» فتصدى له هؤلاء الشيوخ، وطالبوا بمحاكمته كما تصدوا من قبل لعلى عبدالرازق. بل إن مالقيه طه حسين على أيديهم، وما لقوه على يديه، أضعاف ما كان بينهم وبين على عبدالرازق، إذ كان الحوار حاداً دائماً بين عميد الأدب وأساتذته فى الأزهر، وكانت المودة المفقودة بينه وبينهم هى التى سولت لهؤلاء الشيوخ أن يسقطوه ظلماً وعدواناً فى الامتحان، الذى دخله ليحصل على شهادة العالمية، ولهذا ترك الأزهر وذهب إلى الجامعة الأهلية، لتتواصل هذه المشاحنات بينه وبين بعض الأساتذة الأزهريين، الذين كانوا يحاضرون فى الجامعة، كالشيخ المهدى الذى حاول أن يفصل طه حسين من بعثته فى فرنسا، وقد اندفع طه حسين فى ذلك الوقت، وهو فى نحو العشرين من عمره، فهجا هؤلاء الشيوخ الذين تآمروا عليه، بأبيات ثلاثة من شعره لم ينسبها لنفسه، وإنما زعم أنه تلقاها فى البريد، وفيها يقول:
رعى الله المشايخ إذ توافوا
إلى سافواى فى يوم الخميس
(ولعل سافواى أن يكون فندقاً، أو مطعماً، أو ملهى)
وإذ شهدوا كؤوس الخمر صرفا
تدور بها السقاة على الجلوس
رئيس المسلمين عداك ذم
ألا لله درُّك من رئيس!
باستطاعتنا إذن أن نفهم الدافع للعبارات، التى استخدمها الشيخ على عبدالرازق فى حديثه عن هؤلاء الشيوخ، الذين وقفوا هذا الموقف الرجعى العدوانى منه ومن صديقه فكلامه عن الشيخ بخيت والشيخ شاكر، لم يكن مجرد انفعال شخصى، وإنما كان دفاعاً عن حرية التفكير والتعبير.
فماذا عما جاء فى الرسالة عن باريس؟
والجواب هنا أسهل، لأن على عبدالرازق، لم يعش فى فرنسا، ولم تطل إقامته فيها، كما عاش فيها شقيقه مصطفى عبدالرازق وصديقه طه حسين.. وحديثه إذن عن باريس ليس حديثاً عن تجربة حية، وإنما هو حديث عن الحرية التى تقابل ما واجهه فى مصر على أيدى شيوخ الأزهر، ورجال القصر الملكى من تخلف واستبداد، ولا شك أن على عبدالرازق كان فى هذا الحديث متأثراً بما قرأه عن فرنسا، وعن باريس، والسوربون، والثورة الفرنسية، والثقافة الفرنسية، وعن المصريين الذين تعلموا فى باريس، فانتقلوا ونقلوا معهم بلادهم من فكر إلى فكر، ومن حال إلى حال، الطهطاوى، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وأحمد شوقى، ومنصور فهمى، ومحمود مختار، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبدالرازق، وطه حسين.
والذى يقوله على عبدالرازق عن باريس فى رسالته، يقوله عنها هؤلاء جميعاً، طه حسين له صفحات رائعات عن مدينة النور، وعن جدها ولعبها، وفرحها ومرحها «،ولست أدرى إذا لم يكن الفرح والابتهاج فى باريس فأين يكونان؟!».
أما الشيخ مصطفى عبدالرازق شقيق الشيخ على، الذى تلقى العلم فىالأزهر وفى السوربون، وحاضر فى جامعة ليون، ودرس الفلسفة فى جامعة فؤاد، وتولى الوزارة مرات ثم تولى مشيخة الأزهر - أما هذا الأستاذ الجليل فيقول عن باريس: «باريس جنة فيها ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين، فيها للأرواح غذاء وللأبدان غذاء، وفيها لكل داء فى الحياة دواء، فيها كل ما ينزع إليه ابن آدم من جد ولهو، ونشوة وصحو، ولذة وطرب، وعلم وأدب، وحرية فى دائرة النظام لا تحدها حدود، ولا تقيدها قيود، باريس عاصمة الدنيا، ولو أن للآخرة عاصمة لكانت باريس!»
لكن باريس لم تكن بالنسبة لهؤلاء المثقفين مجرد مدينة جميلة، إنها رمز أو مظهر يجسد تلك الروح الدنيوية أو العلمانية المتمردة المستنيرة التى عرفتها مصر الثائرة فى أعقاب 1919 كما عرفتها أوروبا فى عصر النهضة.
لقد استعادت مصر حريتها واستقلالها، وخرجت القاهرة من أسوار العصور الوسطى لتتصل بالنيل، وخرجت مصر كلها من هذه الأسوار لتتصل بالعصور الحديثة، وتحررت المرأة المصرية وخرجت من سجون الحريم، وكشفت عن وجهها، ودخلت الجامعة، وشاركت الرجل وقاسمته الآلام والأحلام، واسترد المثقفون المصريون حقهم فى إنشاء مؤسساتهم المستقلة، وفى حرية التفكير والتعبير، وهكذا استطاعت التيارات العقلانية أن تثبت وجودها وأن تنتزع النصر فى عدة معارك، وازدهرت الثقافة المصرية، واستكملت فنونها، فأصبح الأدب شعراً وقصة ورواية، وأصبح الفن مسرحاً، وسينما، ونحتاً، وتصويراً، ورقصاً، وغناء.
باختصار، استعاد المصريون علاقتهم بالدنيا، وعرفوا أن الزمن لا يعود إلى الوراء، ولا يعود إلى بدء، وإنما يتقدم إلى الأمام، فيتقدمون معه، ويقتربون من الحرية، ومن العدالة، وتلوح لهم السعادة من بعيد، فيغنون مع عبدالوهاب، وهو ممثل عظيم آخر، من ممثلى هذه الروح الدنيوية:
يا دنيا يا غرامى
مهما كانت آلامى
يا دمعى يا ابتسامى
قلبى يحبك يا دنيا
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة