«يااااااااااه فاكر زمان لما....» كلمة لم أكن أتخيل حتى وقت قريب أن أقولها، لكنى الآن أضبط لسانى متلبسا بها، وكلما أذكرها أقول «يااااااااه، دا الواحد كبر» وبإيمان عميق لا أبدى اعتراضا على مرور السنين، وأستعير عنوان رواية صديقى حاتم حافظ ،وأقول هذا يحدث «لأن الأشياء تحدث» وفى الـ 15 سنة الأخيرة حدثت أشياء كثيرة، أشياء تغيرت وأخرى تبدلت، وثالثة ذهبت إلى الزوال، ولأن شوية حاجات صغيرة جنب شوية حاجات صغيرة، بتعمل حاجات كبيرة، وشوية حاجات كبيرة جنب شوية حاجات كبيرة بتعمل وطن، حاولت أن أستعيد ما كان يعطى الحياة طعما ولونا ورائحة، من هذه الأشياء المفيد والغريب والسيئ، ومنها أيضا الجميل والودود والمحبب، وهنا فقط نرصد. هنا العرض الأخير لمصر التى أوشكت على الانقراض.
1
شاى الفراشة والشيخ >الشريب والبراد الأزرق وكراش وتيم وسبيروسباتس
«اشرب شاى الفراشة هتشوف وشك ع الشاشة» أو اشرب شاى البراد الأزرق لأن «الدنيا تملى حلوة معاه... وطعمه عمرك ما هتنساه» أو اشرب شاى الشيخ الشريب عشان تحرم تشرب شاى تانى، كل هذه الأنواع من الشاى وغيرها كانت من أهم ضروريات البيت المصرى، وكان لكل بيت نوع معين من الشاى لا يغيره، وكنا نعرف بيوت أصحابنا بنوعيات الشاى الذى يستخدمونه، ولذلك كنا لا نذهب إلى بيت أحمد إسماعيل أبدا لأن أمه كانت من محبى «الشيخ الشريب» إلا أن كل هذه الأنواع من الشاى خرجت ولم تعد، هى ونوعيات «الحاجة الساقعة التى كانت منتشرة بكثرة قبل 10 ـ15 سنة، ومنها كراش صاحب اللون الأخضر والطعم المجهول، وتيم التى للأسف لم أشربها لكنى كنت أرى إعلاناتها، وسبيروسباتس المميزة بطعمها «الفحلقى» وصورة النحلة على زجاجاتها «قال إيه بعسل النحل» وتستطيع أن تجد سبيروسباتس فى مكان واحد فقط فى مصر، وبالتحديد فى كشك السجاير الوقع بميدان رمسيس بجوار عم عبد الفتاح بتاع أحلى حمص شام فى الدنيا.
2
البنطلون أبو كُسَر
كان يا ما كان, فى سالف العصر والأزمان, بنطلون بكسرتين, وأحيانا ثلاثة، وبحسب المعجم الوجيز فإن «الكسرة» هى قطعة الخبز، إلا أننا أوجدنا لها معنى آخر فى «البنطلون», فكنا نجد البنى آدم «من هؤلاء» «من دول», يعنى بس عشان الموضوع قديم, لازم نتكلم بالفصحى, قضى ثلاثة أرباع اليوم فى ثنى كسرات البنطلون، نزل به إلى الشارع يملؤه الشموخ، ويتنازعه الكبر والتناكة، و«الكُسَر» لمن لا يعرفها هى شىء تشبه فى شكلها الستائر المثناة، فكنت تجد البنى آدم من هؤلاء, يمشى مرتديا شيئا يشبه الستارة، ولم يزحزح البنطلون أبو «كُسَر» من قاموس الأزياء المصرى ,إلا البنطلون الأسبانيش المحزق، إلا أن للبنطلون أبو كُسَر وجودا كبيرا الآن عند كل من شعبان عبد الرحيم وعبد الباسط حمودة، اللذين يدافعان عن البنطلون أبو كُسَر، ويحرصان على الظهور به دائما، وكأنه ملتصق بجلدهم، أطال الله فى عمرهما، ووفقهما إلى المحافظة على هذا التراث العتيق.
3
التليفون «أبو عملة» وتحويل المكالمات للمنازل وقريبا التليفون الكارت
كان ودودا وحليما وعطوفا، مدة المكالمة سر خاص بينك وبينه، وأنت وحظك، كان الناس يقفون أمامه بالطوابير، ومن أجله كان الناس يحوشون ما تصل إليه أيديهم من «الشلنات البيضا التى انقرضت بالفعل والبرايز القلعة التى أوشكت على الانقراض» وحينما كنت طفلا كنت أجمع له شرائح الصفيح المدورة لأضحك عليه، وأضعها بدلا من العملات، فكان أخبث مما أتخيل ويرفضها، وكنت ترى الناس أمامه «يرخمون» على سعيد الحظ اللى أمه دعياله، ونال شرف التحدث من خلاله، لعله يختصر مكالمته ولا يتعشم فى وقت مستقطع من بركات التليفون أبو عملة، وبعد أن ينهى مكالمته يتجاذب أطراف الحديث مع المنتظرين للدور، فيدور حوار شيق حول ما كان يتحدث بشأنه فى التليفون، فيزداد الجو حميمية وودا، أنا شخصيا كنت أعتبر هذا التليفون كالأخ الأكبر، أو كالصديق الوفى، ففى وقت الزنقات كنت أذهب إليه وفى يدى «عملة»، أشب حتى أصل إلى مكان وضع العملات، وحينما تسقط «البريزة» أهز التليفون بشدة فتتساقط العملات محدثة «شخللة» جميلة، فأكاد أصرخ «شلنات.. برايز.. صفيح أحمدك يا رب» وفى ظروف غامضة اختفى التليفون أبو عملة الجميل، هو وخدمة تحويل المكالمات للمنازل، وحل محلهما التليفون أبو كارت بعشرة جنيه بحالهم، ولأن هذا التليفون «جلدة وبخيل وبيحاسب الناس حساب الملكين» جاءت له شركات «الموبيل» التى هجمت عليه هجمة رجل واحد وتفرق دمه بين الشبكات.
4
المطرب الوطنى محمد ثروت
تربينا من صغرنا على أن الأغنية الوطنية تبدأ عند المطرب عبد الحليم حافظ، وتنتهى عند المطرب محمد ثروت المتفرع من شارع الشهيد عبد المنعم رياض، لأن «مصريتنا وطنيتنا حماها الله الله الله الله» وكان الفنان المناضل محمد ثروت هو المتحدث الرسمى باسم المطربين المصريين فى احتفالات أكتوبر، والثورة، وتحرير سيناء، إلا أنه هذه الأيام مختف عن الأنظار، وأغلب الظن أنه استشهد فى إحدى أغنياته الوطنية العاصفة.
5
الأتوبيسات الحمرا
الأتوبيسات الحمرا، هى الدليل المادى على المثل القائل «اصبر على جار السو يا إما يرحل يا إما تجيله مصيبة تاخده» ليس هذا فقط بل دليل على أن المصريين يحبون أشياءهم مهما كانت «مقرفة» فكانوا يدلعون الأتوبيسات الحمرا القديمة باسم كركر، وكان كركر حبيب الملايين، يقفون فى انتظاره منذ مطلع الفجر، وحينما يأتى يهرعون إليه كأطفال ضالين، وجدوا أباهم محملا بالحاجات الحلوة، وفى إطار سرقة وتحديث المصريين، استبدلت الحكومة بالأتوبيسات الحمرا الجميلة أم ربع جنيه، أتوبيسات أخرى خضراء وبيضاء وزرقاء بجنيه واتنين، وراح زمان كركر إلى الأبد ولا عزاء للعاطفيين.
6
الحب الأول
ولع ولوع وحيرة وسهر وشرود من الآخر بهدلة زى ما قال شكوكو فى أغنيته الجميلة «الحب بهدلة خلانى قندلة بهدلى صحتى وأنا لا حول ولا» هذه كانت أعراض الحب الأول، يصاحبه سخونة فى الجسد واضطراب فى الأطراف، وعلاجه «ياهو ماسنجر» أو فيس بوك، ثم كوب من الشاى وسيجارتان، وهتتعرف على 500 حب أول.
7
وابور الجاز وتاجر العملة
كان فيه حاجة اسمها «باجور» يعمل بالجاز أوالكيروسين، كما كنا ندرس فى حصة الكيمياء، وطبعا حينما يعطل الباجور، كان له حل واحد، أن تودعه عند البواجيرجى أو البوابيرجى، ليصلحه، مستخدما القصدير المغلى والإبرة التى يسلك بها «الفونيا» لتصبح النار مشعللة، كنا نستخدم الباجور فى التدفئة فى ليالى الشتاء، وتسخين المياه للاستحمام، وعمل البطاطا المشوية، الذرة المشوى، وبانتشار أنابيب الغاز، ومواسير الغاز الطبيعى والسخانات، وباندثار الباجور اندثر البواجيرجى، ودفؤهما الجميل، تماما كما اندثر تاجر العملة، الذى كان يهرب الدولارات والريالات فى شنطة نايلون سوداء، حينما انتشرت مكاتب الصرافة، التى تغير العملة بشكل قانونى وشرعى، ولهذا أنصح المخرج محمد بدرخان بأن يعيد إخراج فيلمه الجميل «أحلام هند وكاميليا»، الذى دخل بطله «أحمد زكى» السجن بسبب متاجرته فى العملة، لأن القانون تغير وباستطاعة أحمد زكى الآن أن يحصل على «البراءة» من أول جلسة.
8
اللب السورى وأم الخلول والبخت
اللب السورى نبات غير مخصص للاستخدام الآدمى، فهو فى الأساس أكل عصافير الزينة، لكنه كان يباع بكثرة فى «قراطيس» أمام المدارس الابتدائية، لأن بائعيه يستغلون هبل العيال الصغيرة، ويبيعونه لهم، قبل أن يعرفوا أن هذا ليس لبا على الإطلاق، إنما هو شىء يشبه العلف، أما بخصوص أم الخلول فهى كائن بحرى ينتمى إلى أنواع المحاريات، وكان يباع فى قراطيس من الورق المقوى أمام المدارس، بعد أن يتم «تعفينة» عشان يجيب مغص للعيال، أما البخت فهو شىء غير محدد الطعم ولا الرائحة، لونه «بينك»، وكان يصنع على هيئة كيزان فى آخرها شوية عسل اسود مترب، وسعيد الحظ كان يجد فى داخله شلنا جديدا، ولهذا سمى باسم «البخت»، ولأننا من التعساء أصحاب البخت المايل، كنا لا نجد فى البخت إلا العسل الأسود المترب، فنحاول مرة أخرى إلى أن ينفد المصروف على بخت «أم عادل» المضروب، التى أقسمت أن أرفع عليها قضية نصب علنى إذا رأيتها أو رأيت ابنها عادل أبو بنطلون بنص رجل.
9
خبيز الأم والفرن البلدى
تستيقظ الأم فجرا، تتوضأ وتصلى، فاليوم يوم «خبيز» أو بالأصح اليوم يوم عيد، تعجن الدقيق فى «الماجور»، وتحمى الفرن «البيتى»، يطلع العيش ساخنا وطريا، تشم منه رائحة الحب ودفء الحنان،يترقب الأطفال ما بعد الخبيز من خيرات الفرن بإيد الأم من الفطير المشلتت وفطيرة «الصنية» والأرز المعمر، يأخذ كل طفل نصيبه من خير الفرن وحلاوته مشهد حميمى كله دفء وحنان، اختفى الفرن البلدى وخبيز الأم مع انتشار الطوابين وأزمة رغيف العيش، ولم يبق منه غير سجل الشعراء فى قصائدهم وأغنياتهم فقال محمود درويش: «أحن إلى خبز أمى» وقال: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة، رائحة الخبز عند الفجر» وقال أحمد بخيت فى إحدى أغنياته المنسية «متفسروش حلمى أنا بس بتمنى/ريحة خبيز أمى جيالى من الجنة».
10
الكندورة والبدلة الصيفى
الشتاء فصل الشياكة، أما الصيف فهو فصل الكندورة القماش التى كنا نلبسها فى أرجلنا بديلا عن المشى حفاة، والتى كانت لا تقى من حر الأرض ولا من زجاجها المكسور، أما البدلة الصيفى فباستطاعتك أن تراها فى فيلم «رمضان مبروك أبو العلمين حمودة» فكتر خيره حرص الفنان محمد هنيدى على أن يجعل شخصية رمضان بطل الفليم شخصية عتيقة، ياااااه فكرتنا بالذى مضى يا هنيدى.
11
أوضة الفئران
كثيرا ما كنا نسمع عن هذه الغرفة ونحن فى المدرسة، ونخاف منها كعقاب محتمل مع كل خطأ، وكنا ننسج حولها الأساطير، على اعتبار أنها المرادف لجهنم، والفئران الموجودة بداخلها ما هى إلا كائنات أسطورية تبصق النار من جوفها، وتسن أسنانها ليل نهار، وكان المدرسون يهددوننا بها دائما، ليقذفوا فى قلوبنا الرعب بشكل يومى، ليضعونا فى حرب نفسية رادعة، ومؤخرا اكتشف المدرسون أن موضوع الحرب النفسية وأوضة الفئران أصبح «موضة قديمة» ،فقرروا تحويل الحرب النفسية إلى حرب حقيقية تسفر عن شهداء وأسرى وجرحى، ما جعلنا نترحم على غرفة الفئران التى كانت أهون علينا من أنياب يسرى الجمل ومدرسيه.
12
المنديل القماش
زمااااااااااااااان جدا وتقريبا بعد العصر الحجرى مباشرة كان هناك شىء يسمى المناديل القماش، وكانت متعددة الألوان مختلفة الخامات متباينة المقاييس، وكان يستخدمها علية القوم أما العامة والدهماء فكانوا يستخدمون علية «الكم»، ومنذ فترة ليست بالقليلة اختفت المناديل القماش واقتصر استخدامها على حفل «كتب الكتاب» لتغطية أيدى العريس ووكيل العروس أثناء عقد القران وفى الغالب يستولى المأذون على هذا المنديل، ومن أضرار اختفاء المناديل القماش عدم فهم أغنية عبد الحليم حافظ التى يقول فيها «ميل وحدف منديله كاتب على طرفه أجيله» فكيف يكتب الحبيب على منديل ورق؟ وكذلك أيضا «بوظان» مسرحية عطيل لشكسبير، التى يلعب فيها منديل ديدمونه دور البطولة فى كشف خيانتها.
13
الويكة والمفتقة والخبيزة والمرتة وطبعا اللحمة
الويكة هى البامية المجففة وبدأت فى الانقراض حينما انتشرت الديب فريزرات، وأنشئت شركات تجفيف الخضروات، والمفتقة خليط من العسل الأسود والسمسم والسودانى وبعض الزيوت وقل الطلب عليها حينما اكتشف العلماء آثار السمنة القاتلة وقلت السرجات جمع سرجة وهى المكان المخصص لصناعة وبيع العسل والطحينة والزيوت، أما الخبيزة فهى نبات أخضر يطلع «شيطانى» وكان الناس يطبخونها أو يسلقونها لرخص ثمنها، أما عن المرتة فهى الرواسب التى تتبقى من «تسييح» الزبد وتتميز بكونها شديدة الملوحة، أما اللحمة فكنا نسمع عنها ونكاد نراها عند الجزارين والسوبر ماركت، ياااااااااااااااااااااه كانت أيام.
14
مص القصب
تشششششششششش، ححححححححححححح، تشششششششششششششش، حححححححح، تشششششششششششششش، حححححححححححححححححح.
والنبى منفسكش تمص عودين قصب؟
15
إسرائيل العدو الأول
زمان كان مدرس الدراسات الاجتماعية لا يحتاج إلى تعريف الدولة المعتدية الظالمة وكان يكفى أن يقول كلمة «العدو» لكى نعرف أنه يقصد إسرائيل، أما الآن إذا ذكرت كلمة «عدو» فلا نعرف هل المقصود بها إسرائيل أم إيران أم السعودية أم الصومال أم قطر أم هولندا أم فرنسا، أم غيرهم، إذا تعبت نفسك وفكرت فى الإجابة وعرفت الحل اتصل على (......0900) وكمل من عندك الباقى عشان مفيش حد يهمه تعريف العدو غيرك.
16
التسعيرة
«التسعيرة» هى السعر المحدد الرسمى للسلع والخضروات، وكانت الحكومة تعلنها كل صباح فى الراديو الموشك على الانقراض لكى لا يخدع التجار زبائنهم، ويهتم بتطبيقها السيد المغفور له «مفتش التموين» أيام ما كان فيه تموين، وقبل أن تصبح هذه المهنة «سبوبة» لبعض المفتشين لاستفزاز التجار ماديا، يعنى بالرشوة بس قولتها بالمستغطى عشان ميبقاش سب وقذف.
17
البيجامة الكستور والمريلة البيج
كانت البيجامة الكستور من أكبر علامات الشتاء المميزة، وكان عمر أفندى هو راعيها الرسمى، أما المريلة البيج ،فكنا نلبسها فى المدارس، فلا يُعرف ابن الوزير من ابن الغفير، وبدأت فى الانقراض بعد انتشار المدراس الخاصة، واختفاء المدراس الحكومية، التى أصبحت وصمة عار فى جبين من يذهب إليها، وكان لصانعى هذه «المرايل» مآرب أخرى غير أن يرتديها الأطفال، فكانت تستخدم للتعذيب أحيانا كثيرة، لأن أزرارها كانت من الخلف، وحزامها أيضا، شوف إزاى؟.
هل أتاك حديث التسعيرة وحجرة الفئران ووابورالجاز والبواجيرجى وخبيز الأم وفرن الدار والبنطلون أبو كسر والبيجامة الكستور والحب الأول؟.. هنا سوف يأتيك
مصر التى أوشكت على الانقراض
الخميس، 15 يناير 2009 11:41 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة