داخل مستشفى العريش، الذى يوجد فى قلب عاصمة محافظة شمال سيناء، تجمع الأطباء فى أحد المكاتب يحدقون فى آخر المشاهد التى تنقلها قناة الجزيرة عن الأحداث فى قطاع غزة.
أحمد اللبان، أستاذ الجراحة فى جامعة قناة السويس، هز رأسه وهو يتابع المشهد وقال فى هدوء: "هناك أربعة آلاف جريح على بعد 50 كيلومتراً من هنا، ونحن جالسون فى مستشفى مجهز جيداً ويوجد به أكثر من 100 طبيب على أهبة الاستعداد، ويستطيعون التعامل مع أكثر من 400 حالة طوارئ فى الأسبوع، لكن هذه الحالات لا تأتى، لا نعرف لماذا، لكننا مازلنا منتظرين".
ظل مستشفى العريش المتأرجح بين الصمت والفوضى، والذى كان نقطة استقبال كل الجرحى الفلسطينيين الذين عبروا الحدود المصرية، خلفية سريالية للأزمة الإنسانية المتنامية فى قطاع غزة. ولو لم تكن أرقام المرضى الفلسطينيين الذين يمرون عبر معبر رفح تتضاعف يوميا، لظلت أحدث المراكز الطبية فى المنطقة مجمدة، وممراتها المزينة خالية عادة إلا من عامل نظافة أو مسئول يقوم بجولة فى المستشفى.. وفى بعض الأيام لا يصل أحد على الإطلاق.
لكن فى كل مرة تمر فيها سيارة إسعاف فلسطينية تشق طريقها عبر الرمال والأسلاك الشائكة فى الأرض التى لا يوجد فيها أحد بين غزة ومصر، يدخل المستشفى فى حالة من النشاط، حيث يستعد طاقم الأطباء لاستقبال حالة جديدة. فهم يعروفون أن هذه الحالة لن تكون بسيطة فى الغالب. وعندما سئل أحد أفراد الطاقم عن أصعب الحالات التى شاهدها بين الضحايا الذين يتم نقلهم إلى العريش، قال إن هناك حالة كنا نتساءل ما هو العضو الذى لم يُفقد فيها؟..وطبقا لسجلات المستشفى، فإن سدس الحالات التى وصلت إليه كانوا من الأطفال.
وخارج غرفة الطوارئ، جلست نوال واسا، على أحد المقاعد وهى متهالكة، تصلى من أجل ابنتها المراهقة حنين، التى كافح الأطباء من أجل إبقائها على قيد الحياة. قالت نوال إن ابنتها تبلغ من العمر16عاما فقط، وإنها كانت تريد إنهاء المدرسة الثانوية والالتحاق بالجامعة.. "هذا كل ما أرادته". وقد بدأت مأساة نوال الأسبوع الماضى عندما قررت استعادة ابنتها حنين من المكان الذى اعتقدت أنه ملجأ آمن لها، وهو منزل شقيقها فى حى الزيتون.
وتضيف نوال : "امتلأ منزلى بالثقوب الناتجة عن الرصاص، فقررت أن أرسل حنين إلى هناك كى أحميها، لكن فى هذا الصباح، انتبانى خوف مفاجئ عليها وهى بعيدة عنى، وعرفت أنه كان على أن أبقيها بين ذراعى على قدر الإمكان، لكن القدر لحق بها قبل أن أتمكن من ذلك".
وبينما كانت حنين وخالها يقفان فى المدخل، ألقت الطائرات الإسرائيلية بقنبلة على المنزل. وتقول نوال: "شقيقى مدرس، وابنتى طالبة.. ونحن لسنا من حماس، ولا علاقة لنا بها على الإطلاق".. "وقد أطاحت القنبلة بساقى شقيقى وقدم ابنتى اليمنى. وفى الوقت الذى وصلت فيه المنزل، أخبرنى الناس هناك أن حنين ماتت".
لكن ابنة نوال فى الحقيقة كانت لا تزال على قيد الحياة، غير أن اختباراً آخراً لقدرتها على التحمل كان فى انتظارها. فمثل هؤلاء الذين تجمعوا فى نهاية المطاف فى موقف السيارات بمستشفى العريش، اضطرت والدة حنين إلى التعامل مع المتاهات البيروقراطية الخاصة بمسئولى الرعاية الطبية فى غزة، والسفارة الفلسطينية فى القاهرة، وحرس الحدود التابعين لحماس وأفراد الجيش المصرى، قبل أن يتم السماح بنقل حنين من قطاع غزة.
كما أن الرحلة نفسها تمت على طرقات تعرضت لنيران القوات الإسرائيلية، الأمر الذى زاد من آلام الفتاة الفلسطينية وعمق جرحها. ومع اضطرار سيارات الإسعاف إلى السير عبر الصحراء والرمال، قُتل طبيبان و12 من سائقى سيارات الإسعاف بنيران أطلقت عليهم من طائرات إف 16 الإسرائيلية خلال قيامهم بمثل هذه الرحلات فى الأيام الأخيرة.
ويعلق د. اللبان على الهجمات التى استهدفت الأطقم الطبية قائلاً : "إنهم يقتلون الأبرياء، وهؤلاء الذين يحاولون مساعدة الأبرياء.. هذا سلوك إجرامى". وبينما كانت حنين ترقد واعية لكن صامتة، كانت الطائرات تقوم بنقل الحالات القريبة من الموت إلى القاهرة أو السعودية.
وعلى إحدى النقالات كان هناك طفل يبلغ من العمر ثمانية أعوام اسمه زكريا، ووالده حمادة الذى يعمل كعامل منسوجات فى حى الزيتون، لا يستطيع أن يرفع عينيه عن الأرض، فى الوقت الذى كانت فيه أبواب سيارات الإسعاف تنفتح وينقل ابنه إليها.
وقبل يومين فقط، كان زكريا يلعب فى الشارع، حيث يقضى أوقات الفراغ التى أصبحت كثيرة بعد أن تم إغلاق مدرسته نتيجة للقصف. وبعد التاسعة صباحا بفترة قصيرة، بدأت مدافع الهاون فى قصف الحى، وفى غضون ثوانى قليلة أصيب زكريا بشظايا فى الجمجمة والساق. وعلى الرغم من أن حالته حرجة، إلا أن زكريا يعد واحدا من المحظوظين.
ويقول حمادة صراحة: "إن المستشفيات فى غزة مكتظة للغاية، وليس بها مكان لنا، لذلك نحمد لله أننا وصلنا إلى هنا. لقد استشهد ثلاثون فردا من عائلتى. أتمنى أن يجرب الإسرائيليون يوما ما الكوابيس التى نحيا فيها بسببهم".
ومن بين الجرحى الذين وصلوا إلى المستشفى، شاب يدعى محمد نجوار يروى قصته قائلاً: "كنا نجلس تحت النار عشرين شخصا، نستمع إلى الردايو، ونتساءل متى سيصبح الوضع آمنا، ثم وقعت أربعة انفجارات ضخمة فوق رؤوسنا. ووجدت نفسى بعدها تحت صخرة، وبعد فترة عرفت أن القنبلة أودت بحياة أبى واثنين من أشقائى، وكان شقيقى الآخر هنا". وعندما سئل نجوار لماذا استهدف الإسرائيليون منزله، أجاب وهو يضحك بصوت عال: "لأنه لم يعد هناك ما يمكن أن يستهدفوه بعد ذلك".
نوال تقول: "بالطبع ستظل إسرائيل هى عدوتنا"، وتضيف قائلة: "إنهم (أى الإسرائيليين) خبيثيون وكاذبون، أنظر حولك، كلنا مدنيون، كلنا ضحايا سقطت منازلنا فوق رؤوسنا. أتمنى فى يوم أن يعطينى أحد متفجرات كى أريهم ما فعلوه بى. لكننا يجب أن ننظر أيضا إلى الأنظمة العربية، حتى هنا فى مصر. الناس هنا طيبون، لكن ماذا عن حكومتهم؟ ماذا تفعل؟.
ضحايا حى الزيتون يرون مأساتهم من مستشفى العريش
الخميس، 15 يناير 2009 12:48 م