لأى شئ قد نشتاق فى الغربة؟ سؤال لا يمكنك الإجابة عليه إلا إذا كنت بعيدا عن بلاد ألفت سماها واستنشقت هواها لفترة ليست بالقليلة، لأن قرار الغربة إن كان متأخرا فسيكون أكثر ألما. بالغربة تنهض صباحا لتتخيل أنك ما زلت فى سرير وطنك، وأن أمك ستعد لك فنجان القهوة التى كنت تبدأ بها صباحك كل يوم, لتجد نفسك فى سرير غير السرير الذى ألفته, تنهض مثقلا بهموم لا تعرف لها مصدرا محددا, فالمهم هو الخروج للعمل، وتنفيذ المهام التى توكل إليك بإتقان بالغ ليرضى عنك غريب لا يهمك أمره ولا يهمه أمرك خارج نطاق هذه الأوراق.
تأخذ حماما باردا علك تستيقظ من كابوس دام لسنوات, ولكن الماء البارد لا يجدى نفعا، فالحقيقة أعظم من ذلك, تتمشى بالشوارع باحثا عن يافطة كنت تعرفها, تدلك على مكان كانت تعمل فيه فتاة كنت تهتم لأمرها, وتجد أن بحثك العبثى هذا لن يوصلك إلى مكان محدد, تطالب روحك بأن تألف المكان وأهله وأن تنسى ذكريات عفا عنها الزمن, تائه أنت فى غابات بعيدة، حيث لا تعرف طريقا للعودة, تريد أن تحاول كل المحاولات أن تصنع صداقة مع الأدغال وتكلم القرود والسناجب وحتى الثعابين. ولكن رغبة أخرى تأخذك حيث لا تريد, حيث الأماكن التى كنت تتردد عليها, تذكر أيام الجامعة وأحلام خططت لها, وفتاة رسمت معها طريقا للحياة والسعادة, وصديقا قررت أن تشاركه بمشروع صغير يعود بالنفع عليه وعلى أهل حارته الفقراء جداً.
تقول لنفسك: كفى عن العودة إلى المستحيل فاليوم غير الأمس, والأمس لا يعود أبدا, تجادلك مطولا ولا ترضى إلا بحل واحد هو العودة حيث كنت وكانت, تذكرك بأشياء تعرفها, برائحة أزهار البرتقال فى حييكم, ونجمة كانت تحرس منزلك كل ليلة ولا تختفى إلا مع خيوط الفجر الأولى, بقبلة على جبينك طبعتها جدتك قبل السفر, بزهرة النرجس التى كنت تنظر إليها كلما خطوت خارج عتبة المنزل ولكنها ماتت بعد رحيلك بأيام احتجاجا.
تنظر إلى ساعتك وتتردد بإجراء مكالمة هاتفية فكرت فيها منذ أن ركبت طائرة الهجرة بلا عودة, تفكر مليا بالذى ستقوله, تقلب كلمات بذهنك, كلمات تصف ما فيك من ألم وشوق وبعض الندم على شئ كان تفاديه مستحيلا, تعود بك الذاكرة مرة أخرى الى إمراة عرفتها وأحببتها كما لم ولن تفعل يوما, تعلقت بها, كانت فراشة تتراقص بين أصابعك, ونجمة تستدل بنورها طريقا للصمود والبقاء, كانت تملأ المكان حياة بمجرد مرورها العابر.
رفعت سماعة الهاتف لتطلب رقما ما نسيته يوما, تتوقف دقات قلبك دقائق معدودة وتأخذ نفسا عميقا يحفز دقات القلب بعدها على الإسراع, تلهث وكأنك فى ساحة معركة لا تعرف مصيرك إن كنت غالبا أو مغلوبا, يجيبك طفل صغير لا تكاد تفهم الكلمات التى تفوه بها, تقول: هل لى بالتكلم مع حنان, يرتجف صوتك وتكاد تقطع أنفاسك بلفظ اسم قاطعه لسانك منذ فترة ليست بقصيرة, ولكنه لم يغادر جدار القلب وبقى راسخا فى بقايا الذاكرة. يصرخ الطفل بأعلى صوته وكأنه يريد لك أنت البعيد أن تسمعه: أمى رجل غريب على الهاتف يقول أنه يرغب بالتحدث إليك.
كلمات الطفل تزلزل كيانك, وتنسف مخططاتك, صار لحنان عالم آخر أنت لست جزءا منه, قتلت نفسك مرتين بداية عندما قررت السفر والأخرى عندما لم تترك لهذه الرائعة فرصة إلا الزواج من رجل تعرف بأنها لن تحبه يوما لأنها كانت متعلقة بك, كنت تمثل لها كل شئ.
يأتيك صوتها من بعيد ولكنك لا تتجرأ على الكلام, تسمعها تقول: من معى أرجوك أجب, ولكنك لم تكن هناك, كانت أحلامك قد تحطمت مرات ومرات, بعد أن كنت قد قررت أن تترك كل شئ وتقفل عائدا من حيث أتيت كنت ترغب بالعودة لأجلها ولكنها ما عادت لك الآن, ومن الأنانية أن تكلمها اليوم أو غدا.
ولكنك تفاجأ بها تقول: تكلم يا فلان.
عرفتك من أنفاسك, وأنت عندما تأكدت بأنها عرفتك أقفلت سماعة الهاتف وبكيت حتى الفجر, بكيت على حلم تحول إلى رماد ولكن رماد الطائر هذه المرة لن يتجمع ليحلق فى الفضاء كطائر الفنيق. كما فى الأسطورة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة