أحدثت المجازر الإسرائيلية الحالية فى غزة، حالة ارتباك شديدة وغير مسبوقة بين القادة العرب، الذين انقسموا فيما بينهم ووجهوا الاتهامات إلى بعضهم البعض بدلا من توحيد صفوفهم، ووصلت الخلافات فيما بينهم إلى أقصى درجاتها حين دعت قطر إلى عقد قمة طارئة فى الدوحة، فى الوقت الذى تعقد فيه قمة اقتصادية فى الكويت، وفى الوقت الذى أعلن فيه الرئيس الليبى معمر القذافى أنه لن يشارك فى اجتماعات القمة الطارئة بالدوحة أو القمة الاقتصادية بالكويت، بسبب الخلافات والنزاعات العربية - العربية بين القادة العرب.
أكد الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، أن الوضع العربى الآن سيئ وغير مريح إلى أبعد حد. وأمام انقسامات الحكام العرب وخلافاتهم تمضى إسرائيل فى مخططاتها لإبادة الشعب الفلسطينى الشقيق، وتحضرنى فى هذه المناسبة قصيدة من أجمل ما قرأت للشاعر الراحل نزار قبانى، لما تلمسه من أوتار حساسة لدينا وحديثها عن الحاكم الإله الذى أطلق عليه نزار فى قصيدته "يوميات شقة مفروشة" اسم "عنترة"، وما أكثر عنترات هذا الزمان، وما أشد تخاذلهم وما أجبنهم وما أسخفهم فى تبرير تقاعسهم عن نصرة غزة وفلسطين، وما أشجعهم فى مواجهة الشعوب وقمعها وكتم أنفاسها.
لقد لخص نزار حال الأمة العربية كلها من شرقها إلى غربها ومن محيطها إلى خليجها فى ظل هؤلاء الحكام الذين يعتقد كل واحد فيهم أن الدولة شقة مفروشة يتحكم فيها كيفما شاء، ويذل فى سكانها متى أراد، وهى قصيدة رائعة بكل المقاييس من شدة واقعيتها تنفجر من الضحك فى عدة مقاطع منها، وشر البلية ما يُضحك.
واليكم نص القصيدة:
(1) هـذى البـلاد شـقـةٌ مفـروشـةٌ، يملكها شخصٌ يسمى عنترة
يسـكر طوال الليل عنـد بابهـا، ويجمع الإيجـار من سكـانهـا..
ويطلب الزواج من نسـوانهـا..
ويطلق النـار على الأشجـار
والأطفـال
والعيـون
والأثـداء
والضفـائر المعطرة
(2) هـذى البـلاد كلهـا مزرعـةٌ شخصيـةٌ لعنترة
سـماؤهـا..
هواؤهـا
نسـاؤها
حقولهـا المخضوضرة
كل البنايـات – هنـا – يسـكن فيها عنترة
كل الشـبابيك عليـها صـورةٌ لعنترة
كل الميـادين هنـا، تحمـل اسـم عنترة
عــنترةٌ يقـيم فـى ثيـابنـا فـى ربطـة الخـبز
و فـى زجـاجـة الكولا، وفـى أحـلامنـا المحتضرة
مـدينـةٌ مهـجورةٌ مهجـرة
لم يبق – فيها – فأرةٌ، أو نملـةٌ، أو جدولٌ، أو شـجرة
لاشئ – فيها – يدهش السـياح إلا الصـورة الرسميـة المقررة..
للجـنرال عنترة
فـى عربـات الخـس، والبـطيخ
فــى البـاصـات، فـى محطـة القطـار، فـى جمارك المطـار..
فـى طوابـع البريـد، فى ملاعب الفوتبول، فـى مطاعم البيتزا
وفـى كل فئـات العمـلة المزورة
(3) فـى غرفـة الجلوس فـى الحمـام.. فـى المرحاض..
فـى ميـلاده السـعيد، فـى ختـانه المجيـد..
فـى قصـوره الشـامخـة، البـاذخـة، المسـورة
(4) مـا من جـديدٍ فى حيـاة هـذى المـدينـة المسـتعمرة
فحزننـا مكررٌ
وموتنـا مكررٌ
ونكهة القهوة فى شفاهنـا مكررة
فمنذ أن ولدنـا، ونحن محبوسون فـى زجـاجة الثقافة المدورة
ومـذ دخلـنا المدرسة، ونحن لا ندرس إلا سيرةً ذاتيـةً واحـدةً
تـخبرنـا عـن عضـلات عنترة
ومكـرمات عنترة
ومعجزات عنترة
ولا نرى فى كل دور السينما إلا شريطاً عربياً مضجراً يلعب فيه عنترة
(5) لا شئ – فى إذاعـة الصـباح – نهتـم به
فـالخـبر الأول – فيهـا – خبرٌ عن عنترة
والخـبر الأخـير – فيهـا – خبرٌ عن عنترة
لا شئ – فى البرنامج الثـانى – سـوى:
عـزفٌ – عـلى القـانون – من مؤلفـات عنترة
ولـوحـةٌ زيتيـةٌ من خـربشــات عنتريه
وبـاقـةٌ من أردأ الشـعر بصـوت عنتريه
هذى بلادٌ يمنح المثقفون – فيها – صوتهم،
لسـيد المثقفين عنترة
يجملون قـبحه، يؤرخون عصره، وينشرون فكره
ويقـرعون الطبـل فـى حـروبـه المظفرة
(6) لا نجـم – فى شـاشـة التلفـاز – إلا عنترة
بقـده الميـاس، أو ضحكـته المعبرة
يـوماً بزى الدوق والأمير
يـوماً بزى الكادحٍ الفـقير
يـوماً عـلى طـائرةٍ سـمتيـةٍ..
يوماً على دبابة روسيـةٍ
يـوماً عـلى مجنزرة
يـوماً عـلى أضـلاعنـا المكسرة
(7) لا أحد.. يجرؤ أن يقول: لا للجنرال عنترة..
لا أحد يجرؤ أن يسأل أهل العلم فى المدينة.
هل وجد الخالق قبل عنترة؟
أم وجد الخالق بعد عنترة؟
إن الخيارات هنا محدودة
بين دخول السجن..
أو بين دخول المقبرة!!.
(8) لا شـيء فـى مدينة المائة مليون تابوت سوى
تلاوة القرآن، والسرادق الكبير، والجنائز المنتظرة
لا شيء، إلا رجلٌ يبيع - فى حقيبةٍ - تذاكر الدخول للقبر، يدعى عنترة
(9) عــنترة العبسـى لا يتركنـا دقيقةً واحدةً
فـمرة، يـأكل من طعامنـا
ومـرةً يشرب من شـرابنـا
ومرةً يندس فـى فراشـنا
ومـرةً يزورنـا مسـلحاً
ليقبض الإيجـار عن بلادنـا المستأجرة
(10) هل ممكن؟
هل ممكن؟
أن تموت الشمس..
والنجوم..
والبحار..
والغابات..
والرسول.. والملائكة..
ولا يموت عنترة؟؟