«قلبك حينط من مكانه» كنت أعتقد أن هذا المصطلح المصرى مجرد مبالغة لوصف خوفك أو فزعك.. لكن هذا ما سيحدث لك فعليا إذا كنت موجودا برفح المصرية بالقرب من الشريط الحدودى الذى يفصل مصر عن قطاع غزة، حيث يمكنك أن تستمع بوضوح إلى أصوات القصف الإسرائيلى للشريط الحدودى بين مصر وغزة.
بعد أن تعتاد أصوات القصف الإسرائيلى ستصيب جسدك رعشة عندما تسمع أصوات الأذان منطلقة من مساجد غزة تختلط بها أصوات المدفعية الإسرائيلية، بالإضافة إلى شعورك بالعجز عندما لا يفصلك عن غزة أقل من 100 متر وأنت تراها تحترق لكنك لا يمكن أن تفعل شيئا لأجل هؤلاء الذين يموتون هناك.
وكلما ظهرت الطائرات الإسرائيلية فى السماء حيث يمكننا أن نراها بوضوح بالعين المجردة نشعر بالرعب هل يمكن أن تقصفنا هذه الطائرات حتى ولو عن طريق الخطأ ونحن ملاصقون للشريط الحدودى؟ ونحمد الله بعد أن تمر الطائرات دون أن تقصفنا عن طريق «الخطأ» ثم ندعو بالرحمة لسكان المنطقة التى نشاهد سحابات الدخان تتصاعد بكثافة منها.. ولا نشعر بالاطمئنان سوى بعد أن نغادر رفح ونعود للعريش.. فما بالكم بسكان مدينة رفح الذين يقضون ليلهم هم وأطفالهم تحت أصوات الطائرات الإسرائيلية التى تحلق بالقرب منهم وأصوات الانفجارات فى الجهة الأخرى من الحدود بسبب قصف الدبابات والمدفعية الإسرائيلية، التى تجعل بيوتهم تهتز بعنف لدرجة أن بعضها انهار والعشرات الأخرى تصدعت.
«رفح لم تعد تعرف الظلام» يقولها بسخرية زويد أبوحلاوة أحد سكان مدينة رفح «لم نعد نرى الظلام.. بالنهار الشمس موجودة.. وبالليل الصواريخ الإسرائيلية والقنابل الضوئية التى تسبقها تضىء سماء رفح».. زويد فى نهاية الثلاثينيات من العمر، وهو أب لأسرة تضم 4 أطفال «لم يذوقوا طعم النوم منذ بدأت الحرب على غزة» كما يقول زويد الذى يعمل سائق سيارة أجرة، وتعرض منزله لتصدعات وشروخات بسبب القصف الإسرائيلى الذى لا يفصله عن حدودنا سوى ما يقل عن 400 متر، حيث تكتشف إسرائيل مكان أحد الأنفاق بين رفح المصرية وغزة فتقوم بقذفه من الجو. ورغم أن بعض جيران زويد انهارت منازلهم لكنه يرفض أن يغادر رفح «جيرانى هاجروا إلى العريش خوفا على حياتهم وحياة أسرهم، لكنى لن أترك منزلى فأنا لا أعرف مكانا آخر غير رفح ولا أريد الذهاب إلى سواها وحتى لو سأتعرض للموت المهم أن يكون فى رفح وليس فى مكان آخر».
المئات متمسكون بالبقاء رغم الحالة المأساوية التى يعيشون فيها، فبالإضافة إلى الخطر الإسرائيلى الذى لا تفصلهم عنه سوى بضعة أمتار، هناك الأجهزة الأمنية التى انتشرت بالمدينة - وبمحافظة شمال سيناء كلها فى الواقع - وتحاصرها وتحاصر أهلها وبيوتهم حتى تحولت «حياتنا إلى جحيم» كما يقول أحد الأهالى الذى رفض ذكر اسمه خوفا من الأمن - ويكمل «الشرطة تشل حركتنا وتراقبنا وتحسب علينا أنفاسنا، وأصدرت لنا تعليمات بعدم الحديث لوسائل الإعلام، أو السماح لأى شخص غريب بالاقتراب من بيوتنا».
ذهبت وزميلى المصور ماهر لنقوم بتصوير ما تعرضت له هذه المنازل ونقابل بعض سكانها لرصد ما جرى بها، إلا أننا تعرضنا للمنع من قبل مباحث أمن الدولة التى ينتشر رجالها بالقرب من هذه البيوت لمنع وصول الإعلاميين أو غيرهم لها، وطالبونا بأن نذهب إلى أحد المكاتب الأمنية فى رفح للحصول على تصريح. وهناك قابلنى أحد مسئولى المكتب الذى قال لى بلطف شديد لم يخل من نبرة تحذير «إحنا ما بنديش تصاريح.. ممكن تشتغل هناك براحتك بس انسى إنك تصور أى حاجة أو إنك تتكلم مع حد من السكان وخلى، بالك إحنا لينا رجالتنا يعنى ما تحاولش تعمل نفسك من الأهالى حتتعرف ويتقبض عليك ومش عايز أقولك اللى بيتقبض عليه بيحصل فيه إيه «عندك 150 متر بعيد عن الحدود اعمل فيهم اللى انت عايزه غير كده ماقدرش أساعدك».
بعد قضائك ليوم واحد فى رفح يمكنك أن تعرف جيدا موعد القصف الإسرائيلى حتى قبل حدوثه، فما يحدث كالتالى.. فى البداية نسمع صوت «الزنانة»، وهو ما يطلقه أهالى رفح على طائرات الاستطلاع الإسرائيلية التى يصدر منها ضجيج مزعج، وهى تحوم حول منطقة الشريط الحدودى بين مصر وغزة لتحديد أماكن الأنفاق أو الكشف عن عناصر حماس المتمركزة بالقرب من هذه المنطقة، وبعد أن تكون حددت مكانهم، نبدأ نسمع صوت الطائرات تقترب وهناك نوعان منها الـ إف 16 وهذه تحلق على ارتفاع كبير لا يمكنك من تحديد شكلها، أو طائرات الهليكوبتر «الأباتشى» التى كنا نتمكن من رؤيتها بوضوح، بعد أن تظهر إحدى الطائرتين نرى وميضا ينطلق منها ثم خطا أبيض فى السماء، ثم انفجارا مدويا ترتج له الأرض من تحتنا، وفى النهاية دخانا متصاعدا من المكان الذى تم قصفه.
رفح مدينة محاصرة وكأنها جزء من غزة، أينما ذهبت ترى عربات الأمن المركزى وكمائن الشرطة تحاصر المدينة وتنتشر على طول الطريق الواصل بينها وبين العريش، لعرقلة وصول الصحفيين إلى رفح، أو لمواجهة الفلسطينيين فى حال محاولتهم التسلل إلى مصر.
أحمد عدنان, أحد تجار الجملة بمدينة العريش يقول تجارتنا فى غير أوقات الصيف بتكون فى حالة كساد ودخول الفلسطينيين بيعمل انتعاش لنا وحركة البيع بتزيد.. يعنى إحنا بنستنفع وهما كمان بيقضوا حاجتهم«.. حتى أسعار الشقق فى رفح خاصة ارتفعت للغاية فالمنزل الذى كان يمكن استئجاره مقابل 200 جنيه شهريا يتجاوز سعره الآن الـ 600 جنيه، أما أسعار السلع فسعرها فى رفح ضعف سعرها الأصلى مرة ونصف.
التجارة.. مساعدة الغزاوية أدوار مختلفة يقوم بها العديد من أفراد قبائل رفح خلال الحرب على غزة، فالبعض يعمل فى التجارة مع الجانب الفلسطينى عبر الأنفاق التى لا تزال تعمل حتى الآن، والبعض الآخر يعمل مع الأجهزة الأمنية لمساعدتهم فى رصد تحركات الفلسطينيين المقيمين فى رفح أو لإبلاغهم عن البيوت الموجودة فى رفح المصرية ويوجد تحتها أنفاق بالإضافة لمساعدة الأمن على كشف المتسللين فى صحراء سيناء وهؤلاء منبوذون من الأهالى ويتجنبون التعامل معهم، أما الدور الثالث فتقوم به العائلات والقبائل التى تربطها علاقات مصاهرة وقرابة مع الفلسطينيين فى غزة ولا يستهدفون منه سوى مساعدة أقاربهم المحاصرين.
الجيش الإسرائيلى لم يترك أهالى رفح المصرية فى حالهم، فقد استطاعت «اليوم السابع» الحصول على نسخة من بيان عاجل ألقته طائرات الجيش الإسرائيلى ووجهته لأهالى رفح يقول نصه «جيش الدفاع الإسرائيلى يحذر أى شخص من التعامل مع حركة حماس أو محاولة تقديم العون لها من خلال الأنفاق ومن سيفعل ذلك لن يرحم». بالطبع البيان أثار رعب أهالى المنطقة، خاصة المقيمين بالبيوت المتاخمة للشريط الحدودى، الذين صاروا خائفين من حدوث غارات إسرائيلية ضدهم.
هناك نوعان من السحابات الدخانية يمكنك أن تراها فى رفح بالعين المجردة الأولى سحابات سوداء وهذه تكون ناتجة عن انفجار البيوت والمواقع التى يقصفها الطيران والمدفعية الإسرائيلية، والنوع الثانى سحابات بيضاء تميل إلى اللون الرمادى غريبة الشكل كانت تتحرك من غزة لتحلق فوق سماء رفح الحدودية ولم نكتشف ماهيتها، إلا بعد اكتشاف الأطباء المصريين المتواجدين بمستشفى العريش العام وداخل معبر رفح من الناحية المصرية اكتشفوا حروقا من الدرجة الثانية والثالثة لم يعرفوا تفسيرا لها كان مصابا بها المدنيون الفلسطينيون القادمون من غزة لتلقى العلاج فى مصر عبر معبر رفح. حتى اتضح أنه ناتج عن استخدام إسرائيل لسلاح كيماوى يعرف بالفسفور الأبيض.
هدف إسرائيل من استخدامها هو «التمويه على تحركات القوات لأنها لا تسمح للعدو برؤية جنودنا» كما جاء على مسئول عسكرى إسرائيلى، نفس هذا السلاح الكيماوى الخطير استخدمته إسرائيل فى عام 2006 خلال حربها ضد حزب الله، كما استخدمته قوات التحالف خلال حربها ضد نظام صدام فى 2003.
خطورة الفسفور الأبيض حدثنا عنها خبير الأسلحة الكيماوية اللواء ممدوح عطية حيث قال: «إنه يحتوى على أبخرة سامة تسبب التسمم، بالإضافة إلى احتمالية الإصابة بالسرطان»، كما قال إنه من الممكن أن يفسد المحاصيل والحبوب حتى تصبح غير صالحة للاستخدام الآدمى. عطية لم يستبعد أن ينتقل تأثير قنابل الفسفور الأبيض إلى داخل مصر مادامت أطلقت بالقرب من الحدود.
من جانبه دعا الدكتور أحمد رفعت، أستاذ القانون الدولى، إلى مقاضاة إسرائيل إذا ما تسببت القنابل الفسفورية بأضرار لمواطنى رفح، وقال إن هناك بعض الإجراءات التى يجب اتخاذها «أولا إثبات الواقعة وهو ما ستقوم إسرائيل بإنكاره بكل تأكيد، ثم معرفة من القائد الذى أصدر أمر إلقاء القنبلة فالمقاضاة التى تتم بعد حدوث ذلك».
«نحن يمكننا أن نحاكم إسرئيل كمجرم حرب بسبب استخدام أسلحة ضد المدنيين ولكن آلية التنفيذ صعبة» حيث يؤكد الدكتور رفعت أن الأمر نظريا ممكن، لكن عمليا مستحيل لأن هناك عدة أسباب تعوق مقاضاة إسرائيل منها أنها ليست طرفا فى المحكمة الجنائية الدولية.
بالقرب من معبر رفح شوهدت إحدى النساء من سكان المنطقة، تقف إلى جوار إحدى شاحنات المساعدات الإنسانية التى تنتظر العبور من المعبر إلى قطاع غزة، وتمر على المتواجدين، تستعطفهم فى «جنيه.. أو أى لقمة» لابنها الصغير المتعلق فى يدها، وعندما رفض أحد الأشخاص المصاحبين للشاحنة إعطاءها أى شىء وقال «الحاجات دى للفلسطينيين فى غزة».. صرخت المرأة فى وجهه «أغيثوا رفح وأهلها.. إحنا كمان محتاجين للمساعدات مثل الفلسطينيين فى غزة».
لمعلوماتك..
◄ 90نفقاً بين مصر وغزة اغلقت قبل الحرب
"اليوم السابع" شاهد عيان على استخدام إسرائيل الأسلحة الكيماوية ضد الأبرياء فى غزة
الثلاثاء، 13 يناير 2009 06:00 م
طفلة ضحية جريمة الحرب الإسرائيلية - تصوير ماهر اسكندر
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة