أكرم القصاص - علا الشافعي

إسلام بحيرى

السياق فى القرآن

الخميس، 01 يناير 2009 11:23 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
◄المسلمون استقطعوا الآيات من سياقها واستخدموها لتكفير بعضهم بعضاً
◄الآيات القرآنية المنزوعة من سياقها شكلت أساس الفكر الوهابى المتطرف وخلقت نظرية الفرقة الناجية التى دمرت المجتمع الإسلامى
◄المفسرون والفقهاء انتزعوا آيات الربا من سياقها القرآنى لينزلوا اللعنات على المقترض المحتاج وينذرونه بحرب من الله ورسوله
عندما حدثت واقعة التحكيم الشهيرة بين فريقى الصحابة، احتج الخوارج على الصحابى الجليل على بن أبى طالب وحكموا بتكفيره لمجرد قبوله مبدأ تحكيم غير شرع الله، ورفعوا فى وجهه الآيات التى تكفر من يحكم بغير ما أنزل الله, فلما بلغه ذلك قال:« شرار القوم أنزلوا آيات الكافرين على المؤمنين«, لمعرفته اليقينية أن سياق التوجيه فى الآية لا يحتمل المعنى الذى أراده الخوارج, وهذه المقولة العبقرية كانت هى القاعدة الأولى لكيفية التعامل مع النص القرآنى, ما يؤكد أن التطبيق العملى الأول لخريجى مدرسة النبوة كان تطبيقا يتعامل بسياقات محددة ومعروفة مع الآيات الحكيمة, لذا فإن هذه القاعدة التى وردت عن غير واحد من الصحابة فى مواقف مختلفة كانت تشى بالاحتكام إلى السياق الدلالى للآيات لمعرفة المخاطب به, بل ومعرفة مناط الأحكام، كذلك معرفة المقاصد العليا للشريعة الإسلامية المبنية بالضرورة على النص, ورغم وضوح الرؤية منذ عصر كبار الصحابة على التوقف الشديد والتثبت من استدلالات الآيات الكريمة كوحدة واحدة تمثل مجموعات متصاحبة المعنى والدلالة والحكم, إلا أنه ومن عجب أن نظرية السياق التى أصَّلها كبار الصحابة اندثرت مع انقراض عصرهم وتبقت قاعدة إهدار السياق التى ابتدعها الخوارج، فاستمرت وأنضجت وأثمرت فى الوعى المسلم عبر أربعة عشر قرنا، وكان ذلك إيذانا ببدء ابتسار واجتزاء الآيات من معناها الكلى المتناسق وحكمتها العليا، فضلا عن إعجازها البنائى فى ذاتها, إلى متاهات الاقتطاع والاجتزاء الذى كانت عواقبه كارثية ليس فقط فى تكفير الفرق، وإن كان ذلك أبين العواقب ولكن ذلك تعدى وانسحب على جميع الاتجاهات فى الفكر والخطاب الإسلامى. ونستطيع حصر هذه الاتجاهات فى ثلاثة اتجاهات محددة.

أولا: الاتجاه التنظيرى العقدى:
وهو الذى اختص بتبيين العقيدة على مر عصور التاريخ الإسلامى, وكما انقسم الإسلام سياسيا بعد الفتنة وبعد كربلاء انقسم أيضا طائفيا وعقديا فى الأصول والفروع ولم تلبث الفرق إلا أن عادت لاستخدام قاعدة إهدار السياق التى أبدعها الخوارج، فبدأت كل الفرق فى تنزيل آيات المؤمنين على الكافرين فى خطابهم العقدى، وظهرت الخلافات الكلامية-علم العقيدة- وما تبعها من الخلاف حول ذات الله وصفاته وأسمائه وتجسيمه وتشبيهه وظهرت أفكار خلق القرآن وما تبعها, وكل ذلك لم يكن إلا بخطابات تكفيرية فى أغلبها بين الفرق المتناحرة, مع دخول عصر تكفير الفرق الإسلامية بعضها البعض، وتبلورت من خلال استخدام الآيات القرآنية بخلاف سياقها الداخلى فى النص ما أدى لتبلور وظهور نظرية الفرقة الناجية التى قصمت ظهر المجتمع الإسلامى والبنيان المرصوص فى بواكيره, حيث استدلت كل الفرق الإسلامية المتنابذة فى الأصول والفروع بآيات الذكر الحكيم مبتورة من سياقها الدلالى, ما مهد بشكل تلقائى لاستحلال ذلك واستحضاره على مر التاريخ الإسلامى, حتى إننا كثيرا ما نجد فى أدبيات الوهابيين وكتب التأريخ لظهورهم وتغلبهم وصفا متكررا لأعدائهم بالكفار والكافرين والمشركين, رغم أنه من المفترض أنهم مسلمون موحدون بالله يصلون للقبلة ويتخذون محمدا نبيا, ثم ما لبثت ذات الآيات لتكوِّن وتشكل العصب الرئيس للفكر الوهابى فى سبعينيات القرن الماضى حيث استخدمت آيات مثل: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» المائدة 44, فى سياق مبتور ومجتزأ ليُحكم من خلالها على دول إسلامية كاملة بالكفر والخروج من الملة لأنهم يتعاملون بالقانون الوضعى, واقتطعت كذلك آيات مثل: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ» المائدة 33, ليحكم بها كحد للحرابة على مسلمين موحدين بالله بعد انتزاعها من السياق عنوة، لتمثل سيفا مسلطا على رقاب المؤمنين, لتصبح الآيات هكذا مشاعا لمن يريد إسقاطها على من شاء وقتما شاء.

ثانيا: الاتجاه الفقهى والتفسيرى:
أما نتائج هذا الاتجاه على المستوى الفقهى والتفسيرى فكانت ذات آثار واسعة فى استحضار وتخليق أحكام ليس بالاستناد على تكأة الآيات المجتزأة من سياقها السابق واللاحق ما جعل المخاطب به فى الآيات مموها مغيبا , ومن الأمثلة الفجة على ذلك:
1 -انتزع المفسرون والفقهاء آيات الربا من سياقها القرآنى واجتزأوها من المخاطب بها لينزلوا اللعنات على المقترض المحتاج وينذروه بحرب من الله ورسوله, ففى أدبيات الفتاوى الشهيرة عن حكم المقترض بزيادة فى المال تعول هذا الفتاوى على الاتكاء والارتكان على آية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» البقرة (279,278), بيد أننا لو استعدنا السياق لهذه الآيات عن الربا فى القرآن لوجدناها تعبر عن مخاطب به آخر.

فالآية فى سياقها القرآنى تختص بالخطاب لجماعة من المسلمين سبقها رب العزة بآيات يستحسن فيها قيم التكافل فى المجتمع الإسلامى غير مدفوع الأجر بقوله سبحانه: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» البقرة 274 , ثم يسوق رب العزة فى ذات السياق النعى والوعيد للقيم المخالفة والرافضة للانتهاء عن الربا من خلال قياسه على نشاط اقتصادى مماثل وهو البيع فتأتى الآيات بقوله: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» البقرة (275/277), ثم يعقب الله فى عجز - نهاية - الآيات على رفضهم هؤلاء إسقاط الربا الزائد على المسلمين والانتهاء عنه بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» البقرة (278/281), وهنا يتوضح بجلاء مفهوم السياق من النص ويُتَبين المخاطبون فى الآيات, وهم المقرضون الذين يملكون رؤوس الأموال كما وضحت الآيات, والذين خاطبهم الله لإمهال المعسر فى السداد, لذا فإن الآيات لم تأت بوجه من الأصل فى التكلم عن المقترضين ولا على ذكرهم بالمرة، لأنه لو كانت الآيات موجهة للمقترضين لكانوا أول الناس فرحا بذلك الحكم, فالسياق أبدا لا يحتمل ولا يتعدى لمخاطب به آخر كما دلس به المشايخ المعاصرون, حيث لم يجد المسلم بيتا للمال يقرضه لأنه لا شك فى احتياجه للاقتراض - والاحتياج هذا متغير وليس توقيفياً على فهم الفقهاء الأوائل كما بينا فى مقالنا السابق عن مفهوم الضرورة -, وحيث تغيرت قواعد اللعبة فأصبحت الصدقات والزكوات فضلا وليست فرضا, ولكن شيوخ «بيزنس» البنوك الإسلامية ينزلون اللعنات والوعد بالحروب من الله لمخاطب به غير موجود فى الآيات وهذه جريمة فى حق الاثنين, المجتمع المسلم وكذلك النص الإلهى.
2 - هذا مثال آخر على إهدار وإغفال السياق الدلالى لآيات القرآن من خلال اختلاق مخاطب بها من صنع الفقهاء والمشايخ, ولكن التدليس هنا من نصيب الوهابيين وهم أهل ذلك وكفؤه, فالوهابيون اخترعوا مصطلحا جديدا لم يعرفه المجتمع الإسلامى من قبل وهو مصطلح «الاختلاط» بمعنى تواجد النساء والرجال فى مكان واحد ورغم أننا لن نناقش هذا المصطلح خاصة، فهو مؤجل لمقال منفرد ولكن الشاهد هنا هو استخدامهم للآيات التى عولوا عليها لبيان حرمة وفسوق النساء اللاتى يخرجن من بيوتهن, فقد انتحل الوهابيون فى خطابهم المستمر والدائم والمتوالى للمرأة الآيات التى يقول الله فيها: «وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» الأحزاب 33, رغم أن السياق المتوالى للمخاطب فى النص هن نساء النبى خاصة وليس نساء المسلمين فسياق الآيات غير المبتور يقول الله فيه: «يَا نِسَاءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا» الأحزاب (32/34), فالآيات بلا شك كما هو موضح موجهة إلى نساء النبى خاصة، وذلك لعظم شأنهن ولمكانتهن الروحية والحكمية فى الإسلام حيث هن أمهات المؤمنين, ورغم أن المعنى المراد من الآية والموجه لنساء النبى لا يحتمل أبدا منعهن من الخروج من بيت النبوة, لكن الوهابيين دلسوا فى معنى الآية اللغوى فجعلوه يوجب منع الاختلاط وهو مصطلح من اختراعهم, ثم دلسوا للمرة الثانية فى توجيه السياق لكل النساء المسلمات ليضيقوا عليهن حياتهن ويحرمهن من الحياة الاجتماعية السليمة حيث هن دائما عند الوهابيين شر مستطر وفتنة شهوانية.

والغريب أن الوهابيين إذا ما ألقمهم أحد العقلاء حجرا فى فمهم وحاجهم أن الآيات موجهة لنساء النبى فقط تجدهم يردون بتدليس آخر جديد أن نساء الأمة أولى أن يتأسوا ويتبعوا ما نزل فى نساء النبى, وهذا بالطبع كلام فاسد لأن الآيات بسياقها حكمت أن لنساء النبى وضعاً حكمياً ودينياً مختلفاً، فالآيات تبتدئ بقول الله: «يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ» ولكن ذلك تدليس الوهابية المعهود بالاتكاء على ذات القاعدة التى نتكلم عنها من إهدار وسحق السياق الدلالى فى الآيات القرآنية. ولنقس على هذين المثالين الذى ذكرنا الكثير مما لا يحصى من استخدام النص المنزل بعيدا عن سياقاته الداخلية أو حتى الخارجية المحتملة أو المقبولة بوجه فى الكلام.

ثالثا: الاتجاه الخطابى والوعظى:
وهذا الاتجاه الأخير هو المصب الذى يتداعى إليه كل من الاتجاهين السابقين, فلم يكن عسيرا على الخطاب الدينى الوعظى، الذى على بساطته يمثل بانتشاره أساسا لتخليق العقلية والذهنية العامة للمسلم, فالتهديد المستمر ولغة الغباء الخطابى التى يمارسها الوعاظ والمشايخ تؤثر بشكل منهجى على وعى المسلم بحقائق الخطاب القرآنى الأساسى والموجه له بسياقات قصدها الرب سبحانه, فجاء الخطاب المجتزئ والمقتطع للآيات من دلالاتها المقصودة ليغير هذا الخطاب, فليس من الغريب أن نعرف أن كلمة «النار» وردت فى القرآن «105» مرات لم تقترن بسياق موجه للمسلم فى أى مرة إلا فى أربع مرات فى سياق ليس تحذيريا ولا تهديديا بل فى سياق دعوة من المؤمنين للإله سبحانه أن يقيهم عذاب النار, ولنا أن نعلم أن كلمة «جهنم» وردت فى القرآن «77» مرة لم تقترن فيها سياقيا بالخطاب للمسلم إلا فى مرة واحدة وكانت مقصودة محدودة لورودها فى سياق التحذير والوعيد من جريمة ما كان متصورا أن تحدث فى المجتمع المسلم، وهى القتل العمد للمؤمن، فلما أراد الله أن يؤكد على حرمة الدماء الأبدية قال موجها الخطاب للمؤمنين: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» النساء 93, وليس معنى ذلك أن المسلم لن يدخل النار, بل الحساب فرع من عدالة الله, ولكن المقصد أن السياق الذى أراده الله للمؤمن أن يرغبه فى عدم ارتكاب المعاصى ولا يرهبه إذا ما هو ارتكبها والفرق كبير جدا، وكان المسلم يحتاج استبيان هذا الفرق الخطابى من ربه سبحانه والذى ضيعه وضيع معه هذا الاتجاه القرآنى بكل أسف الفقهاء والمشايخ الذين يتوعدون المسلم بجهنم لم يتوعده الله بها, وسنضرب مثالا على ذلك غاية فى الوضوح، ففى كلاسيكيات النهى عن السهو عن الصلاة نجد دائما التحذير باستخدام قول الله: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ» الماعون (5,4) وذلك على اعتبار أن السهو المقصود فى الآية هو السهو المعروف عن الصلاة رغم أن السهو بمعناه الحقيقى هو فرع من النسيان البشرى والطبيعى، الذى من الممكن أن يحدث لأحدنا من شدة انشغاله فيسهو عن أداء الصلاة مرات وذلك مما هو معفو عنه فى الدين.

ولكن الذى حدث أن المفسرين والفقهاء ومن بعدهم المشايخ وكأنه لا وجود لسياق قرآنى لنزول هذه الآيات, رغم أن سياق السورة كاملة تمثل وحدة واحدة لعدة أوصاف للمنافقين الذين علم الله نفاق قلوبهم بل علم كفرهم الكامل بدعوة محمد, والسورة ما هى إلا تعبير وتوصيف لهم, فيقول الله فيها: «أَرَأَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ» سورة الماعون, فالله سبحانه يخاطب النبى عن بعض المنافقين الذين يكذبون بالدين كله, ثم من أوصافهم أيضا فى سياق واحد أنهم يدعون ويقهرون اليتيم ولا يحضون قولا أو فعلا على إخراج الصدقات لإطعام المساكين, وذلك تتابع متوال لأوصافهم فى سياق واحد, ثم يعقب رب العزة بقوله: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ», فهذه تتمة أوصافهم فى ذات السياق فيتوعدهم الله لأنهم يتظاهرون بالصلاة, والسهو هنا لا علاقة له بالسهو المعروف بل هو من قبيل النفاق واستكمالا لأوصافهم التى حددتها الآيات, أى إظهار السهو عن الصلاة كعذر لعدم أدائها فى وقتها, حيث جاء الوصف فى معرض الكلام عن النفاق الكامل والتكذيب بالدين، والدليل تعقيب الله عن ذات القوم المنافقين فى نهاية السورة بقوله: «الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ» بمعنى أنهم حتى إذا أتوا للصلاة مداهنين جاءوا مرائين أى يفعلون ذلك نفاقا لكى يراهم الناس وذلك من مجموع وصفهم جميعا ثم هم يمنعون الماعون، وهى الصدقات والزكاة. إذن لا يمكن ولا يُحتمل ولا يُتصور أن تقتطع الآيات من سياقها الموحد المتسق المتوالى كما فُعل لتسقط على المسلم الذى يحافظ على صلاته ولكنه قد يسهو عنها فى وقت ما, وذلك ما يبين الآثار الكارثية لتحويل المخاطب فى الآيات من خلال الخطأ المكرر والمتوارث من قطع وبتر للسياق من كليته.وهكذا يتبن لنا ما فعله إهدار وسحق نظرية السياق القرآنى بأبعاده الثلاثة والتى تتخطى كثيرا الأمثلة التى ذكرناها حيث تغلغلت هذه الذهنية فى شتى مناحى التعامل مع القرآن.

وأخيرا:
لم تتوقف الخسائر عن إهدار نظرية السياق فى آيات القرآن عند ما ذكرنا فقط, ولكن هذا الاتجاه كان له من المثالب والمسالب الكثير على توقف نمو فقه المقاصد، كما أشار لذلك »محمد الطاهر بن عاشور« فى كتابه »مقاصد الشريعة« حيث كان التعامل مع السياق بالكلية بابا واسعا لاستجلاء اللحظة التاريخية والزمانية والدواعى اليقينية لنزول الآيات, ما كان سيمكننا من استفهام علل للنصوص غابت كثيرا مع شيوع نظرية الاجتزاء ونظرية عموم اللفظ دون مراعاة المعنى المستوحى والمعقول من التسلسل البنائى للآيات, ورغم المحاولات القديمة والمعاصرة لاستحضار علم المقاصد من جديد لإعادة الوعى للفهم المعاصر للقرآن, ولإعلاء المصالح المرسلة للمسلمين على سلاسل وأغلال التوقف عند تعامل العلماء الأوائل مع التنزيل الحكيم.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة