شيزوفرينيا إسطنبول بين الثقافة والسياسة والأدب

الرواية التركية بعد أورهان باموك

السبت، 27 سبتمبر 2008 03:48 م
الرواية التركية بعد أورهان باموك عدد من الروايات التركية الرائجة
د.زين عبد الهادى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تشتهر إسطنبول بأنها "حورية الشرق" كما نطلق نحن على الإسكندرية "عروس المتوسط"، اشتق اسمها من العبارة اليونانية "إس.تن.بولين"، بمعنى (إلى داخل المدينة)، المسافة بين القاهرة وإسطنبول 1229 كيلو مترا، قطعها سليم الأول فى عدة أشهر ليحتل القاهرة عام 1516، وقطعها العبد لله فى ساعتين بإيحاء من محمد صلاح العزب للكتابة حول الرواية الجديدة فى تركيا بعد أورهان باموك، هذا الروائى التركى الذى احتل قمة إفرست الروائية بحصوله على جائزة نوبل عام 2006.

حين تتطلع إلى إسطنبول من نافذة الطائرة سيلفت نظرك البوسفور، وهو يخترق المدينة من المنتصف، هذه المدينة التى كانت عاصمة لثلاث إمبراطوريات والتى مر على حكمها مائة وعشرون سلطانا، حيث تنتشر فيها المساجد الضخمة، ويقع بها متحف أيا صوفيا الرائع الجمال، وقد كان كنيسة ثم تحولت إلى مسجد، ويروى أنه حين انتهى بناؤها عام 537م وقف أمامها الإمبراطور جستنيان صارخاً بأعلى صوته "أيا سليمان، أنا متفوق عليك الآن!"، مدينة إسطنبول يقع نصفها فى قارة آسيا والنصف الآخر فى قارة أوروبا، تنقسم تركيا على نفسها بين جذورها الشرقية والإسلامية، وبين أن تكون إحدى دول الاتحاد الأوروبى، تنقسم بين ذكريات العهد العثمانى، وحكايات الأديبين الأشهر ناظم حكمت وعزيز نيسين، وبين الرقص الشرقى، والعود والقانون، والقهوة التركية، والسلطان عبد الحميد الذى استمر المصريون يدعون له فى خطب الجمعة حتى الخمسينيات فى قرى الصعيد، بالإضافة طبعا للكلمة الشهيرة "أنت فالاد"، تنقسم إسطنبول بين دعوات التحرر والليبرالية والملاهى الغربية والشرقية التى تكتظ بها الأزقة، وبين قضية الحجاب التى يقف وراءها الليبراليون الأتراك والمحكمة الدستورية ضد حزب العدالة الذى يمثل التيار الإسلامى المحافظ، والذى يرفض قانون الحجاب ويرفض منع الطالبات المحجبات من دخول الجامعات، مما دفع المحكمة الدستورية مؤخراً، بناء على طلب من بقية الأحزاب والمدعى العام التركى، إلى التحرك لإغلاق مقر الحزب، وفى رأى الشارع التركى أن ذلك يتم لأسباب تتعلق بالتزامات تركيا أمام دول العالم، وأخيراً جنون كرة القدم الذى أصاب الشعب التركى، مما يدفع البرلمان إلى إصدار قراراته أثناء مشاهدة الشعب لمباريات الكرة!

كنت على يقين من أن الحديث عن الرواية التركية المعاصرة لن تكون مسألة سهلة على الإطلاق فى ظل هذا الجو السياسى المشحون، ففى ميدان تقسيم، حيث باعة الورود والملابس والكباب العراقى ولحم الخراف الموصلى الأصل الرائع المذاق، حيث يطعمون الخراف هناك يومياً بعض حبات الهيل والصنوبر، وحيث زحمة التاكسيات الصفراء، والمظاهرات الجميلة الصامتة التى تنظم فى حراسة الشرطة التركية، وحيث انتشار العاهرات والشواذ من كل جنسية، أيضاً يمكنك أن تتعثر فى جميع الجنسيات العربية من مغاربة ومصريين وعراقيين وسوريين وغيرهم، بعضهم اتخذ إسطنبول مقراً نهائياً، والبعض الآخر اتخذها قاعدة وقتية فى انتظار اللحظة المناسبة لينقض على أوروبا، وحيث يمكنك الحديث باللهجة المصرية، إضافة بالطبع إلى الأتراك الذين يجيدون اللهجة العراقية، أو الأكراد الذين تخلوا عن السلاح وأصبحوا مواطنين أتراك، وهؤلاء أغلبهم يعمل بمجال السياحة سيخرجون من الجادات ليصطحبوك إلى أى مكان تريده وسيلحون عليك، وسيقولون لك إنهم يتحدثون الإنجليزية بطلاقة، لا تصدقهم، هل كان يمكننى الحديث عن الرواية قبل الحديث عن إسطنبول!

صانع المجد الروائى التركى
بالطبع لا يمكن الحديث عن الرواية التركية اليوم دون أن نبدأ بصانع المجد التركى فى الألفية الجديدة، فيريت أورهان باموك، المعروف باسم أورهان باموك والذى ولد عام 1952 بمدينة إسطنبول، ينتمى باموك لجيل الثمانينيات الروائى فى تركيا، عمله الأصلى الهندسة المعمارية، لكنه يعمل الآن أستاذاً للأدب المقارن فى جامعة كولومبيا، لكن يمكن القول، إن الرواية التركية عرفت خارج أطرها الإقليمية منذ عهد بعيد، ولا يملك أورهان شرف أن يكون رسول الرواية التركية للعالم، بل إن هناك عشرات الروائيين الأتراك الذين قدموا الرواية التركية للعالم وفق المفهوم الدولى، هذا إذا كان هناك مفهوم دولى للرواية، يقف على رأس هؤلاء مجموعة من الروائيين الأشهر فى التاريخ التركى الحديث، مثل ناظم حكمت الأب الحقيقى للرواية التركية وتلميذه الروائى الساخر عزيز نيسين اليسارى، ويشار كمال، وأليف شفق وبالمناسبة فهم مازالوا رموزاً للرواية التركية الحديثة والمعاصرة.

مكتبات أسطنبول
تنتشر المكتبات فى إسطنبول لكنها أكثر كثافة فى شارع الاستقلال، هذا الشارع الذى يمثل رمز استقلال تركيا بالنصب التذكارى الذى نحته المثال والمصور الإيطالى زورانو والذى يصور فيه الثورة التركية على حكم السلاطين، تلك الثورة التى قادها كمال أتاتورك عام 1922، يقع النصب فى ساحة تقسيم فى مقدمة شارع الاستقلال، الشارع التجارى الأكبر والأكثر ازدحاماً فى إسطنبول، لا يمكنك عبور الشارع بسهولة، فهو كامل العدد طول الوقت وعليك أن تحارب لعبوره، خاصة أنك ستصطدم فى كل خطوة بالنساء الأوروبيات بشعورهن ذات الألوان العجيبة وبملابسهن الأكثر غرابة، كما سيخترق الحجاب أيضا الطريق، وكذلك المتسولون وباعة اللوترية والعازفون العميان وباعة الذرة المسلوقة والمشوية، كأنك تسير فى شوارع القاهرة تماما، لكن بشكل أكثر نظافة وبإلحاح أقل ودون سحابة سوداء، ستتوقف لتشاهد العشاق فى أطراف الشارع وحاراته الممتلئة بالمقاهى، يتبادلون الأحضان والعناق والقبلات، وكما هو مفهوم فالنظرة الأولى لك والثانية عليك، "وإلا جرك البوليس من قفاك"، وحده شارع الاستقلال به أربع مكتبات أولها مكتبة الاستقلال، وهى تتكون من طابقين الطابق الأول للكتب والطابق الثانى مقهى ومطعم، أما أشهر هذه المكتبات فهى مكتبة (آر.أند.دى)، تتكون المكتبة من ثلاثة طوابق، الطابق الأرضى يحتوى على الكتب التى دخلت قائمة أفضل المبيعات بالإضافة للاسطوانات الموسيقية والمجلات المصورة، والطابق الثانى يحتوى على الكتب الحديثة السياسية والأدبية والفلسفية، أما الثالث والأخير فيحتوى على بقية أنواع الكتب ومنها كتب الأطفال، فيما تتوافر فى المكتبة أماكن للجلوس والقراءة. المكتبة الثالثة تأتى فى أول الشارع مختفية بين مطاعم الكباب التركى والمطاعم الأمريكية الشهيرة، إنها مكتبة مفيستو التى يقول عنها صاحبها، إنها أقدم مكتبة فى الشارع، وإن كان كل واحد من أصحاب هذه المكتبات قد أصر على أن مكتبته هى الأقدم، بشكل عام تختلف هذه المكتبة عن بقية المكتبات الأخرى فى أنها تقدم بجوار الكتب لوحات وأعمال متحفية وملحق بها (كافيه) فى طابقها العلوى. فيما تأتى مكتبة (كتاب الإنسان) فى نهاية الشارع وأمام النصب التذكارى الذى يمثل تاريخين هما 1923، 1973 وفوقه مجموعة من الأنابيب النحاسية المختلفة الأطوال، فى إشارة لإعلان الجمهورية التركية عام 1923، والتاريخ الثانى يمثل مرور خمسين عاماً على قيام الجمهورية التركية، كان النصب ممتلئاً ببقايا الآيس كريم وساندوتشات الهامبورجر وإصبع روج لم تجد صاحبته ما يمكن أن تفعله به بعد أن فرغ من كثرة تبادل القبلات مع صديقها الذى وقف يدخن بغزارة يتطلع إلىّ من خلف نظارته فى شك، فملامحى تبين أننى إرهابى شرقى عتيد يقف بوقاحة فى وجه العناد التركى الشهير، كأننى كنت سأسمع (فالاد خرسيس) فآثرت الانصراف!

الاعتراف بالثقافة التركية
مع ارتفاع حدة الصراع السياسى فى تركيا ظهر روائيون جدد، منهم من ينتمى لجيل الستينيات مثل دمير طاش جيهون وبنار كور وسفغى صويصال وفيروزان وآيلا قطلو وإردال أوز ووداد ترك على. أما جيل السبعينيات، فمنهم يوسف أطلغان وعدالت آغا أوغلو وأغوظ أطاى .. ومع مطلع الثمانينيات ظهر تحسين يوجال وسليم إلرى وأويا يايضار وليلى إربيل ولطيفة تكين وأليف شفق وإحسان أوقطاى أنار وحسن على طوبطاش ومراد تونجل وآخرون غيرهم. وعلى الرغم من أن أورهان باموك قد صرح بأن نوبل هى اعتراف من العالم بالثقافة التركية، إلا أننى بحثت عن الإجابة عن مدى هذا الاعتراف لدى رجل الشارع التركى.

يبدو أيضاً أن تنوع القوميات بين الأتراك ترك تأثيره على كل شىء فى تركيا، إلا أن التأثير الأكبر كان فى تحويل الشعب التركى إلى شعب مدمن للسياسة، هو تنوع قومياته، فالقوميات التركية متعددة من تركمان إلى أكراد، ومن شركس إلى أرناؤوط، ومن سلاجقة إلى قوقاز، حتى إن بعض أهل البوسنة والهرسك يقولون بأنهم ينتمون إلى الجنس التركى، ولذلك فى المكتبات تجد أن الأفضل المبيعات (بست سللر) هى للكتب التى تتناول السياسة، ولعل من أهم كتب هذه الفترة كتاب "من أنتم أيها الأتراك؟" (تركى سن كيمسيا) للكاتب الشهير جوندوز فاساف وكتاب الحكومة العسكرية (كود آد باربى) لذهنى شاكر zihni cakir، أما أشهر كتاب السياسة الأتراك على الإطلاق فهو سونار يلتشين sonar yalcin صاحب كتاب سيزكيمى sizkimi.

مفارقات
الكتب الدينية أيضاً لها طلابها، ولكنها ليست كتب العقيدة أو الفقه أو إعادة نشر كتب ابن تيمية وغيره من الفقهاء العظام كما يحدث لدينا، حيث لم ألاحظ فى تلك المكتبات الكبيرة أى كتب دينية على الإطلاق، وعلى ذلك فالكتب الدينية لديهم إنما هى نوع من الكتابة اللاهوتية وأشهر هؤلاء الآن يشار نورى أوزتاك صاحب كتاب "الاحتيال على الله"allah lealdimak، ويشار يعمل أستاذاً لعلم اللاهوت بالجامعة التركية، ستجد الكتاب يتصدر عناوين المكتبات الأربع ومعه مجموعة الكتب السياسية التى أشرت إليها، أورهان باموك يحتل ركنا بعيدا، وقد لا تجده أحيانا أخرى، كان فى الأمر إذن شىء ما غير مفهوم، هذا هو ما قررت السؤال عنه، حين قابلت ماريا دوبلسكى البولندية الأصل داخل إحدى تلك المكتبات تبحث عن كتاب حول الفلسفة الهندية باللغة الإنجليزية، لا يمكن أن تتجاهل قوامها الممشوق ولا عينيها الواسعتين الخضراوين، ولا ابتسامتها المرحبة حين اقتربت منها، للمرة الأولى أكتشف أننى لست إرهابياً أمام الأوروبيين أو أمام الأوروبيين الشرقيين والله أعلم. تعمل ماريا كراقصة إستربتيز (تعرى) فى إحدى الحانات التركية مقابل حفنة ريالات تركية، ماريا تكتب الرواية أو فى سبيلها إلى إنهاء روايتها الأولى عن الفتيات اللاتى يرقصن إستربتيز فى الملاهى الليلية – وبالمناسبة فعدد هذه الدور كبير للغاية فى إسطنبول ـ بهدف استكمال تعليمهن أو الحصول على مال وفير أو الزواج من رجل أعمال عجوز أو ثرى عربى من الخليج، كانت هذه هى آمال صاحباتها، أما هى فكانت تملك مشروعاً لكتابة الرواية سيبدأ بحياتها هى وصاحباتها وارتحالهن كل صيف من دول أوروبا الشرقية القديمة التى تفككت إلى تركيا واليونان وقبرص ورودس ومالطا، وأوروبا الغربية للبحث عن عمل فى مواسم السياحة لتوفير مصاريف الدراسة، فلا يجدن أعمالاً سوى عرض أجسادهن عاريات، أو الجلوس فى أحضان الزبائن دون أن يقوم هؤلاء بممارسة أى فعل خارج عن حدود الأدب ـ كما قالت بعدم اهتمام ـ وإلا وجدت صفعة على وجهك الكريم فتعود سريعاً لرشدك المفقود أو ستجد من يلقى بك فى الخارج بعد دفع الحساب كاملاً غير منقوص وفوقه تبس (الشحط) الذى فعل فيك ذلك!
سألتها ألا ترين فيما تفعلينه عيباً؟، تطلعت فى وجهى بعينين يملآن بشك، ثم تنحنحت وقالت بأنه عمل، مجرد عمل، مثل أى عمل فى الدنيا، أليس كل عمل يرضى رغبة أو غريزة، وأنهت كلامها باتهامى بالتخلف وربما الشك فى قواى العقلية لأننى حاولت الدفاع عن رداءة مثل هذا العمل، لكنها عادت وضحكت وهى تتذكر بأننى مسلم ينتمى للإرهابيين الذين يقتلون من الشعب البولندى الحبيب بالمئات كل يوم، وبالتالى يمكنها أن تأخذ كلامى على محمل من عدم الجدية، كان هذا نهاية للحديث على وعد باللقاء بعد يومين لأنها ستذهب فى إجازة على شاطئ البوسفور، أشارت وهى تبتعد بأن الإجازة مقدسة كالصلاة فى الكنيسة يوم الأحد، قالت هذه العبارة ومضت بابتسامة منتصر بعدما رفضت فى أدب أن ألتقط لها صورة، وكنت أنا غارقاً تلك اللحظة فى اللزوجة الشرقية الطافحة منى وأفكارى الإرهابية المتوارثة فى نظرها!

صورة المثقفة التركية
حين حصلت على هاتف أليف شفق الكاتبة الأشهر حالياً فى تركيا، أدركت بأننى يمكن أن أقدم وجهاً آخر للمرأة التركية المثقفة، وبأنها يمكن أن تجيبنى على أسئلتى الكثيرة، لكن قبل ذلك كان على أن أركب الباص رقم (25) لأذهب إلى منطقة (ميرتر) فى إسطنبول لمقابلة الناشرين والتجول بين المطابع التركية.

فى الباص أتت جلستى بجواره، كان أحد أتباع الطريقة (المولوية) وهم طائفة معروفون فى أوروبا باسم الدراويش الدوارة، كما أن مركز الكون (من الناحية الرمزية) بالنسبة لهم موجود فى شارع السيوفية بالقاهرة وعلى وجه التحديد فى التكية المولوية فى مجمع سنقر السعدى بجوار القلعة، الطريقة المولوية أسسها مولانا الشاعر والخطيب والفيلسوف محمد جلال الدين الرومى صاحب القصيدة الشهيرة (المثنوى)، والتى تمثل أساس الطريقة الصوفية المولوية المعتمدة على الرقص الصوفى، قال بأنه غير معنى بالأدب، وإن تركيا تعيش على سطح ساخن بسبب الأعراق المختلفة والقوميات المتعددة وجذورها الإسلامية وتطلعها الغربى، وأنه سمع عن أورهان باموك لكنه لا يعرف ما هى قيمته على وجه التحديد، تملكنى الصمت وأنا أتطلع لبحر مرمرة الذى طالما سمعت عنه فى كتب التاريخ أيام المدرسة الإعدادية، لكنه كان بالنسبة لى فى ذلك الوقت محض خيال وكلام مفتعل نحشو به أبصارنا وأسماعنا، لم أكن أعتقد أننى سأسير من أمامه يوماً ما!

استدللت على منطقة ميرتر، وعلى سوق الصحفيين بجوار السوق المغطى، حيث توجد أهم دور النشر فى تركيا، دار نشر إيلتيسين التى تنشر أعمال أورهان باموك، ودار نشر أبريل التى تنشر أعمال آدم فاور، ودار نشر (يوردام كتاب) التى تنشر أعمالاً مختلفة سياسية، أما أليف شفق فتنشر لدى دار نشر (دوجام كتاب) والتى نشرت فيه عملها الأخير (صياح صوت) الذى يقع فى 300 صفحة من القطع المتوسط، أما أعمال ماركيز المترجمة ومنها على سبيل المثال "الحب فى زمن الكوليرا" فصادر تحت اسم (كوليرا جونلرنيدى آشك) ترجمة سادان كارادنيز، تتعدد دور النشر الكبيرة التى تتصدر كتبها جميع المكتبات التركية أيضا مثل داركابالاتشى ودار ترويا ويابى كريدى وإيس سونكر، بالإضافة لدار دوست التى تتخصص فى كتب الفلسفة والتاريخ.

الرواية الأكثر مبيعاً الآن هى رواية أليف شفق المشار إليها ورواية مواتان مونجان وهى رواية عن الجنس المثلى بعنوان (كالديندان كنتلر) بمعنى (الميتافور)، ويبدو أن داء الكتابة عن الشواذ جنسياً أصبح مطلباً عالمياً، أو أنه رسخ فى وجدان الروائيين الجدد أن الطريق لنوبل يمر عبر الكتابة عن الشذوذ الجنسى!

النجم أورهان باموك
قابلت فى ميرتر طالبين من جامعة بوسفورس هما بكير الذى يدرس علم الاجتماع، وضياء (زيا) الذى يدرس الفيزياء، ضربا أخماساً فى أسداس، حين سألتهما هل يعرفان الإنجليزية وادعيا بأن وقتهما ضيق للغاية، وأخيراً استسلم بكير للحديث عن أورهان باموك بعد إلحاح منى، بعد دقائق انضم إلينا ضياء، قالا بأن أورهام باموك مقروء للغاية من قبل طلبة الجامعات، بالمناسبة إسطنبول وحدها بها حوالى إحدى وعشرين جامعة منها جامعتان فقط حكوميتان هما جامعة إسطنبول يلدزتكنيك وجامعة مرمرة، والباقى جامعات خاصة فيما تنتشر الجامعات أيضاً فى جميع المدن التركية ـ كما أنه أى أورهان مقروء من قبل التيارات الليبرالية، لن تجد أحداً يتكلم عنه جيداً لأنه يعتبر فى نظر الأتراك القوميين خائناً لوطنه بإعلانه مسئولية الأتراك عن مقتل ما يزيد عن مليون مواطن أرمنى إبان الحرب العالمية الأولى، فيما نفى الكثير منهم هذه الحادثة، وقال البعض إنه كان لها أسبابها التاريخية فى ذلك الوقت، لكن لا أحد يريد الحديث عن ما جرى فى الماضى، لقد حدث وانتهى، أو لم يحدث وانتهى، خلنا فى الحاضر، نعم نقرأ، طلبة الجامعات هم الآن القراء الجدد، كما هو الحال فى مصر حالياً، لكن لم يظهر من الكتاب الشبان للآن من يشد الانتباه، نحن نقرأ لأورهان وشفق ومونجان وحتى الكلاسيكيين، نعانى أحياناً بسبب أسعار الكتب، وبالمناسبة أيضاً يتراوح متوسط سعر الكتاب الواحد من 15 إلى 22 لير تركية وهو مبلغ كبير بالنسبة لطلاب الجامعات، علما بأن اللير تقترب كثيراً من الدولار أو أقل بمقدار هامشى، وبالتالى فهم لا يقتنون كثيراً من الكتب وتمثل المكتبات العامة والجامعية المكان المثالى للحصول على كل ما يريدون من كتب، وافقا على التصوير معى، تحدثنا عن الحرية الأكاديمية والعلاقات مع الزملاء والزميلات بالجامعة، حين مضيا من أمامى أدركت سبب رغبتهما فى الخروج سريعا، كان هناك فتاتان تقفان تتطلعان إليهما فى الخارج، سرعان ما احتضنا الفتاتين ومضياً بعيداً ليختفيا فى زحام الشارع.

أنت عربى؟
حين تجولت فى المساء فى بعض الشوارع المجاورة طالعتنى فتاتان طويلتان، ناصعتا البياض إلى حد مدهش، لكن ألوان شعورهما القصيرة الحمراء والخضراء، والملابس القصيرة المكشوفة ذات الألوان المتداخلة كانت تشى بحرفتهما التاريخية، إنه منظر عادى يواجهك دائما فى أى مدينة أوروبية، ابتسما فى وجهى، وحيث إن ذكرياتنا مع الإيدز والحرام والحلال أقوى من أى شىء آخر داخلنا، حاولت التملص من بينهما بنفس الابتسامة، لكنهما نطقا تلك الكلمة السحرية والتى لا أعلم من أين أتيا بها : إنتا أرابى؟ كانتا روسيتين لا يعرفان من العربية سوى هاتين الكلمتين، بالإضافة إلى (أسلام أليكم) حين رفضت أصرا على أن يمنحانى إحداهما هدية، وحين رفضت مرة أخرى أصرا على أن الهدية لا يمكن رفضها وأنهما سيمنحانى نفسهما دون مقابل فقط العشاء وزجاجة خمر، ولما قلت لهما بأننى مسلم ولا أستطيع فعل ذلك، ابتسما وقالا بأن تركيا كلها مسلمة، ومع ذلك فالأتراك لا يتحدثون فى ذلك، أخبرتهما بأن المصريين مختلفون نوعاً ما بسبب التربية الدينية والأخلاقية والعادات والتقاليد، اقتنعا فى النهاية بأننى عميل فاشل وأن موطنى الأصلى هو "أرض العميان"، وهو نفس الاسم الذى أطلقه دلفى بيزاس على الجانب الآخر من مضيق البوسفور، تركتهما خلفى يلعنان اللحظة التى قابلانى فيها!

الصحافة التركية
كنت أبتسم وأنا أتوجه نحو كشك الصحافة الذى يقع فى مدخل شارع الاستقلال، أجابنى الشاب بالداخل أنه يعرف الإنجليزية (ليتل) وحين دفعته للحديث عن أشهر الصحف والمجلات التركية قال بأن هناك ست صحف شهيرة فى تركيا ولا توجد جرائد حكومية على الإطلاق، هذه الصحف هى جمهوريات والحرية ومليات وصباح وزمان، صحيفة (جمهوريات) هى الصحيفة التى تمثل تيار اليسار، وصحف حرية ومليات وصباح تمثل التيار المحافظ اليمينى، أما الصحيفة الأخيرة (زمان) فهى صحيفة شبه دينية، وأشهر المجلات هى مجلة (تمبو) السياسية والأدبية، ومجلة (نقطة) وهى ثقافية اجتماعية سياسية، ومجلة (أكتوال) وهى تقدم ثقافة عامة وتعرض الموضة والقضايا الاجتماعية، وأن بعض هذه الصحف والمجلات يقوم بتقديم جوائز لأهم الأعمال الروائية والأفلام والنقاد، كذلك تقدم قنوات التليفزيون جوائز أيضاً لأفضل الكتب والأفلام كل عام، واستطرد قائلاً إن التليفزيون الحكومى يتمثل فى خمس قنوات أيضاً هى قنوات تى آر تى Turkish Radio and TV، ثم استدار وأعطانى عن طيب خاطر دليلاً باللغة التركية لمدينة إسطنبول، شكرته ومضيت أقلب صفحات الدليل الذى لم أفهم منه كلمة واحدة فقد كان مكتوباً باللغة التركية لكنه كان يمتلئ بصور خلابة للمدينة!
لم يتبق إذن سوى الاتصال بأليف شفق لإجراء حوار حول الرواية، وحين ضربت رقم هاتفها اكتشفت أن الرقم خطأ، اتصلت بأيوب ليرسل لى الرقم الصحيح قال بأنه مشغول للغاية فى إخراج المجلة وأنه سيرسل الرقم عبر رسالة قصيرة بالموبايل، وحين أتت الرسالة اكتشفت أنه نفس الرقم الخطأ، هنا تدخل وكيلى السياحى واعداً إياى باستضافة أحد الكتاب الأتراك فى الصباح التالى، وفى انتظار الصباح نمت أحلم بالفاتنات العثمانيات التى كتب عنهم أورهان باموك فى "أحمر وأسود" وفى "القلعة البيضاء"!

الرواية التركية الجديدة
قابلتهما فجأة فى بهو الفندق فى الصباح التالى، الكاتبة الناشئة ليلى بوغداجى وأخيها المرشد السياحى على، ليلى متخصصة فى الأدب التركى والفارسى، معرفتها بالإنجليزية متواضعة، لكن أخيها عمل كمترجم ممتاز من العربية إلى التركية والعكس وهنا بدأت اعترافات الرواية التركية الجديدة.

ما قالته لم يختلف كثيراً عن الوضع الروائى فى مصر، فلم يعد الكتاب مهمومين بالقضايا الاجتماعية أو الوطنية خاصة الروائيين الجدد، فهم غارقون فى ذواتهم، يتحدثون عن الشخصيات، علم النفس يلعب الدور الأكبر فى تقديم الشخصيات وتحليلها، الروايات أغلبها حوارات داخلية، أو تبحث عن الغرائبى من المواقف، تقول ليلى إن الشكل الروائى التركى الآن قريب الشبه للغاية بالفيزياء الكمية، إن هناك انشطارات بين الكتاب وبين المجتمع، أصبح المجتمع بمشاكله مواطناً من الدرجة الثالثة فى الرواية الحديثة، لم تعد الكتابة عن المجتمع هى الهم، وإنما الكتابة عن الذات ومشاكلها، وحتى إذا كان هناك كاتب مثل تورجوت أوز أكمن الذى اجتذب الأنظار برواياته عن الماضى، فإنه يصف الأتراك كيف كانوا وكيف أصبحوا شعباً من الطائشين، ليلى نفسها تكتب عن الماضى ومحاولة الرجوع إلى الماضى العثمانى الجميل الذى كتب عنه أورهان باموك فى القلعة البيضاء الذى أصبح من المستحيل العودة إليه، الروائى التركى لأسباب كثيرة لا يكتب عن المجتمع حتى لا تصاب روايته بالسجن بين الرفوف ولا تباع، إنهم يأكلون من بيع الكتب فمن يجرؤ الآن على الكتابة عن ما لا يريده أحد، على سبيل المثال روائيون مثل أحمد حاقان وجمال ثريا ومراد هان مونجان يكتبون عن العوالم الداخلية للإنسان، مونجان يقول بأنه على الرغم من أن عقولنا تعيش فى الماضى إلا أن أجسادنا تعيش فى الحاضر، نحن مقبلون على أزمة نفسية قومية، أما الروائى أردال أوز فهو يكتب تماماً مثل ناظم حكمت وعزيز نيسين، وهناك كتاب مثل إسكندر بالا وإمرا كونجار وهو من أهم الكتاب الروائيين حالياً، وذكرت ليلى أيضاً بأن من أهم الشعراء حالياً أحمد حمدى تانبنر ويحيى كمال بياطل، الرواية التركية الجديدة تتكلم عن الغرائبية والمثلية الجنسية والفردية الإنسانية، وليس هناك من يمكن أن نقول إنه حمل راية الرواية للآن بعد أورهان باموك، الفترة القصيرة بعد أورهان لا تتيح الفرصة لظهور كتاب جدد، ولا يمكن المغامرة بأسماء جديدة فى الرواية من قبل الناشرين فى وقت أصبح فيه اهتمام الجميع منصباً على السياسة والسياسة فقط.

إن من يكتبون عن المثلية الجنسية والغرائبية فى الروايات الآن يتطلعون إلى الجوائز الكبرى، يتابعون اتجاهات الرواية فى أوروبا، أو على الأحرى يتابعون اتجاهات القارئ الأوروبى واتجاهات أصحاب الجوائز، إنهم يبحثون عن عودة القارئ لشراء الروايات كما يريدون عرض بضاعة تعجب الجانب الأوروبى، إنهم يبحثون عن الأموال والجوائز، فهل يمكنهم المغامرة بالكتابة عن المجتمع، المجتمع الغارق فى السياسة والحجاب الآن، روائية مثل أليف شفق تعتبر من أشد المعارضين السياسيين ومن أعمدة العمل النسائى (الفيمينيست)، إنها نفس قضاياها فى الرواية، ولها جمهورها القوى، على الأقل بين النساء.

هل وصل أورهان باموك إلى ما وصل إليه عزيز نيسين، حين ألف كتباً تزيد عن طوله لو رصت أمامه، أورهان باموك حصل على نوبل وأغضب الشعب، وعزيز نيسين حصل فقط على حب الشعب التركى، ما لذى يريده الروائى الآن؟!

منذ أسبوعين أغلقت الحكومة التركية نادياً للمثليين فى شارع الاستقلال، هاجت أوروبا كلها ومازالت، هل يفعل الروائيون الأتراك ذلك، لا أظن فالرواية مصدر رزقهم، أورهان باموك الآن لا تعرض له المكتبات الخمس فى الواجهات وضمن مبيعات أفضل أعماله الروائية، كنت أجد مجموعته منزوية هناك، إنه خيار الروائى الأخير!

حملت حقيبتى عائداً للقاهرة، أتذكر كل ما حدث، لقد اخترت الكتابة عن رأى الناس ولم ألجأ لمؤسسة حكومية متعمداً، أن أستمع إلى نبض الشارع بكل ما فيه وكل من فيه، يمكننى يوماً آخر أن أستمع لرأى المؤسسة الثقافية والأدبية فى تركيا، يمكننى الآن أن أهدأ أن ألقى برأسى على رأس مقعدى فى الطائرة وأحلم بالسلطان العثمانى، وهو يقول لى ضاحكا "إنت فالاد خرسيس.شوكوزال.شوكوزال"!






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة