أوبرا والدكتور فيل..
الثقافة كما يصدرها إلينا الأمريكيون
السبت، 27 سبتمبر 2008 02:11 م
الحرية عندما تستهلك ستنتهى فى النهاية إلى استهلاك نفسها
بقلم ميسلون هادى
من حق كل إنسان أن يحصل على السعادة متى ما شاء، ولكن ما من شك أن المبالغة فى إظهارها عند الحصول عليها ومحاولة القفز فوق هامش الحزن الإنسانى الذى يربطك مع الكون بوشائج التأمل والتعبد والورع، سيؤدى إلى رد فعل طبيعى عالمى تجاه هذه الحياة اللاهية والهوس الدنيوى الفاقع بالمأكل والملبس والمسكن وعمليات التجميل والنحافة والشباب وكل المتع التى يمكن الوصول إليها بأقصر الطرق وأقلها تعففاً دون مراعاة لأحزان أو مآسى باقى الشعوب. إن الثقافة الأمريكية (كما ينقلها إلينا الإعلام الأمريكى) تقدم الإحساس الفاقع بغرور الإنسان وبعده الشديد عن التواضع والهدوء والاتزان. فنبرة صوته عالية، وتصفيقه مبالغ فيه، والاحتفاء بالضيوف جنونى والتملق لهم غير واقعى، والضحكات صاخبة جداً، بل حتى طريقة المشى والتحدث والتحية استعراضية وصاخبة وبعيدة كل البعد عن التواضع، كما يهبط المسئول الأمريكى على سلم الطائرة قفزاً ومرحاً وبطريقة فيها الكثير من الاستعراض والمبالغة والغرور، تلك هى صفات موجودة فى صميم الشخصية الأمريكية، على ما يبدو، بل هى مقبولة بين مختلف فئات المجتمع بحيث لا يجدون غضاضة فى التحلى بها أو الإعلان عنها.
إن مهمة التطور فى الغرب جاءت كنتاج ومعطى من معطيات المكاشفة ومحاورة الآخر، وهى أمور تحرص المؤسسة التربوية فى الغرب على تعليمها للأطفال منذ الصغر فتراهم يفضفضون عما فى دواخلهم ويُمنحون مطلق الحرية فى التعبير عن أنفسهم سواء داخل صفوفهم الدراسية أو بين أهليهم فى البيوت بحيث لا يُردعون أو يُقمعون إلا عند الضرورة القصوى. وعندما يكبرون تكبر معهم ثقتهم بأنفسهم وقدراتهم على تقبلهم النقد وتوجيهه أيضاً إلى الآخرين فلا يعتبره الآخرون انتقاصاً لهم ولا يتحسسون منه بل يتقبلونه أيضاً بروح موضوعية ورياضية، مما يجعل روح الديمقراطية، فى النهاية، تسود بين الأفراد فى حياتهم الاجتماعية قبل أن تسود فى الحياة السياسية والقانونية والثقافية وباقى جوانب الحياة ومستوياتها. هذه القدرة الاستيعابية لما هو متأزم فى المجتمع وإثارة الأسئلة وطرح القضايا والمشاكل بشكل صريح، يتحول فى الإعلام الأمريكى عادةً إلى مادة إعلامية تستثمرها البرامج المختلفة لخلق الإثارة سواء بالمجان أو بدفع النقود للضيوف من أجل كشف الأسرار وفضح الخفايا. ولعل برنامج (أوبرا) ذا الشعبية المنقطعة النظير فى أمريكا وجميع أرجاء العالم، هو مرآة كبيرة موضوعة أمام المجتمع الأمريكى وتعكس مجمل أهوائه وميوله ومبالغاته أو أسلوبه فى الحياة بشكل عام. فكل ما يخطر على البال تتم مناقشته فى هذا البرنامج، من المأكل والملبس والرشاقة والجمال والأزياء وديكورات البيت، إلى التجارب التراجيدية أو الإنسانية الحية ذات الموضوعات الساخنة، والتى تُروى من أصحابها من الذين يعرضون أخطاءهم على الملأ أو يناقشهم فيها اختصاصيون فى مختلف المجالات ومن ثم إظهار المسكوت عنه، إن كان مسكوتاً عنه فى مجتمعاتهم أصلاً، أو جعله فرجة للعالمين وعلى الطريقة الأمريكية، باعتباره يعرض من باب التحرر من العقد المكبوتة وتجاوز الأحزان والمآسى والتجارب المريرة. إن هذه الأمثلة الحية التى تعرض من باب التطهر سرعان ما سيحولها الإعلام الأمريكى إلى مادة إعلامية دسمة باطنها الألم وظاهرها البهرج البراق أما الشرور والفضائح التى يسيل لها لعاب المشاهدين، فهى التوابل التى ترش على هذه المادة.
إن الحرية عندما تستهلك ستنتهى فى النهاية إلى استهلاك نفسها، وستجعل الإنسان يحترق فى أتونها كما نلاحظه فى برنامج "الدكتور فيل" الذى يعرض مآسى الآخرين بطريقة تجعلك تتساءل أين أمانة الطبيب النفسى من أسرار مرضاه وهل حقاً سيشعر أولئك المرضى بالتحسن أو سيتماثلون للشفاء إذا ما عرضوا أسرارهم على الملأ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا اعترضت بعض جمعيات الطب النفسى على هذا البرنامج. وليس هو الوحيد الذى يسوق هذا النمط المريض من التفكير، فقد ظهرت أخت المغنية المعروفة وتنى هيوستن فى برنامج (ذى إنسايدر) أو (المطلع)، وهى تبيع للإعلام صوراً مسيئة لأختها بطلة فيلم "بودى كارد" الشهير، تظهرها فى مكان وسخ وفى حالة مزرية من البؤس وتعاطى المخدرات. وقالت تلك الأخت إنها تبيع الصور من أجل المال أولاً، وثانيا من أجل الانتقام من أختها التى خطفت صديقها منها.
والمشكلة فى هذا النمط الغريب من التفكير أن أهله قد اعتادوا عليه لدرجة أن لا يعتبروه كذلك ولو تذكرون الحلقة الخاصة التى عرضت بمناسبة احتفال أوبرا بعيد ميلادها الخمسين، والملايين التى صرفت من أجل ذلك الاحتفال، لتجسدت بصورة أوضح هذه الفكرة التى أشير إليها، أى أن يصبح الهوس الدنيوى أسلوب حياة لا يجد فيه الأمريكى أى حرج أو غضاضة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
من حق كل إنسان أن يحصل على السعادة متى ما شاء، ولكن ما من شك أن المبالغة فى إظهارها عند الحصول عليها ومحاولة القفز فوق هامش الحزن الإنسانى الذى يربطك مع الكون بوشائج التأمل والتعبد والورع، سيؤدى إلى رد فعل طبيعى عالمى تجاه هذه الحياة اللاهية والهوس الدنيوى الفاقع بالمأكل والملبس والمسكن وعمليات التجميل والنحافة والشباب وكل المتع التى يمكن الوصول إليها بأقصر الطرق وأقلها تعففاً دون مراعاة لأحزان أو مآسى باقى الشعوب. إن الثقافة الأمريكية (كما ينقلها إلينا الإعلام الأمريكى) تقدم الإحساس الفاقع بغرور الإنسان وبعده الشديد عن التواضع والهدوء والاتزان. فنبرة صوته عالية، وتصفيقه مبالغ فيه، والاحتفاء بالضيوف جنونى والتملق لهم غير واقعى، والضحكات صاخبة جداً، بل حتى طريقة المشى والتحدث والتحية استعراضية وصاخبة وبعيدة كل البعد عن التواضع، كما يهبط المسئول الأمريكى على سلم الطائرة قفزاً ومرحاً وبطريقة فيها الكثير من الاستعراض والمبالغة والغرور، تلك هى صفات موجودة فى صميم الشخصية الأمريكية، على ما يبدو، بل هى مقبولة بين مختلف فئات المجتمع بحيث لا يجدون غضاضة فى التحلى بها أو الإعلان عنها.
إن مهمة التطور فى الغرب جاءت كنتاج ومعطى من معطيات المكاشفة ومحاورة الآخر، وهى أمور تحرص المؤسسة التربوية فى الغرب على تعليمها للأطفال منذ الصغر فتراهم يفضفضون عما فى دواخلهم ويُمنحون مطلق الحرية فى التعبير عن أنفسهم سواء داخل صفوفهم الدراسية أو بين أهليهم فى البيوت بحيث لا يُردعون أو يُقمعون إلا عند الضرورة القصوى. وعندما يكبرون تكبر معهم ثقتهم بأنفسهم وقدراتهم على تقبلهم النقد وتوجيهه أيضاً إلى الآخرين فلا يعتبره الآخرون انتقاصاً لهم ولا يتحسسون منه بل يتقبلونه أيضاً بروح موضوعية ورياضية، مما يجعل روح الديمقراطية، فى النهاية، تسود بين الأفراد فى حياتهم الاجتماعية قبل أن تسود فى الحياة السياسية والقانونية والثقافية وباقى جوانب الحياة ومستوياتها. هذه القدرة الاستيعابية لما هو متأزم فى المجتمع وإثارة الأسئلة وطرح القضايا والمشاكل بشكل صريح، يتحول فى الإعلام الأمريكى عادةً إلى مادة إعلامية تستثمرها البرامج المختلفة لخلق الإثارة سواء بالمجان أو بدفع النقود للضيوف من أجل كشف الأسرار وفضح الخفايا. ولعل برنامج (أوبرا) ذا الشعبية المنقطعة النظير فى أمريكا وجميع أرجاء العالم، هو مرآة كبيرة موضوعة أمام المجتمع الأمريكى وتعكس مجمل أهوائه وميوله ومبالغاته أو أسلوبه فى الحياة بشكل عام. فكل ما يخطر على البال تتم مناقشته فى هذا البرنامج، من المأكل والملبس والرشاقة والجمال والأزياء وديكورات البيت، إلى التجارب التراجيدية أو الإنسانية الحية ذات الموضوعات الساخنة، والتى تُروى من أصحابها من الذين يعرضون أخطاءهم على الملأ أو يناقشهم فيها اختصاصيون فى مختلف المجالات ومن ثم إظهار المسكوت عنه، إن كان مسكوتاً عنه فى مجتمعاتهم أصلاً، أو جعله فرجة للعالمين وعلى الطريقة الأمريكية، باعتباره يعرض من باب التحرر من العقد المكبوتة وتجاوز الأحزان والمآسى والتجارب المريرة. إن هذه الأمثلة الحية التى تعرض من باب التطهر سرعان ما سيحولها الإعلام الأمريكى إلى مادة إعلامية دسمة باطنها الألم وظاهرها البهرج البراق أما الشرور والفضائح التى يسيل لها لعاب المشاهدين، فهى التوابل التى ترش على هذه المادة.
إن الحرية عندما تستهلك ستنتهى فى النهاية إلى استهلاك نفسها، وستجعل الإنسان يحترق فى أتونها كما نلاحظه فى برنامج "الدكتور فيل" الذى يعرض مآسى الآخرين بطريقة تجعلك تتساءل أين أمانة الطبيب النفسى من أسرار مرضاه وهل حقاً سيشعر أولئك المرضى بالتحسن أو سيتماثلون للشفاء إذا ما عرضوا أسرارهم على الملأ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا اعترضت بعض جمعيات الطب النفسى على هذا البرنامج. وليس هو الوحيد الذى يسوق هذا النمط المريض من التفكير، فقد ظهرت أخت المغنية المعروفة وتنى هيوستن فى برنامج (ذى إنسايدر) أو (المطلع)، وهى تبيع للإعلام صوراً مسيئة لأختها بطلة فيلم "بودى كارد" الشهير، تظهرها فى مكان وسخ وفى حالة مزرية من البؤس وتعاطى المخدرات. وقالت تلك الأخت إنها تبيع الصور من أجل المال أولاً، وثانيا من أجل الانتقام من أختها التى خطفت صديقها منها.
والمشكلة فى هذا النمط الغريب من التفكير أن أهله قد اعتادوا عليه لدرجة أن لا يعتبروه كذلك ولو تذكرون الحلقة الخاصة التى عرضت بمناسبة احتفال أوبرا بعيد ميلادها الخمسين، والملايين التى صرفت من أجل ذلك الاحتفال، لتجسدت بصورة أوضح هذه الفكرة التى أشير إليها، أى أن يصبح الهوس الدنيوى أسلوب حياة لا يجد فيه الأمريكى أى حرج أو غضاضة.
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة