لاشك أن القضاء وعمل القضاة له طابع خاص، حيث إن القاضى هو ميزان العدل فى أى مجتمع ومن خلال عمل القضاة يتم قياس العدالة واحترام حقوق الإنسان، ومن ثم مدى تحضر هذا المجتمع وتنفيذه للقوانين وأحكام القضاء، ولذلك فإن كافة المجتمعات المتحضرة توفر للقضاة العوامل الكاملة والمناسبة لقيامهم بعملهم، وبما يحقق ويصل إلى أحكام عادلة فى القضايا المطروحة أمامهم دون التأثر بأى عوامل محيطة يمكن أن تؤثر على العدالة وعلى أحكام القضاء.
وفى مصر، وهى من الدول التى يشهد لها بوجود قضاء شامخ عادل له قواعده وأعرافه وتقاليده الراسخة، فقد تعلمنا أن القاضى فى القضايا الهامة المطروحة أمامه يتعامل فقط مع القانون من خلال الأوراق المتوفرة والمقدمة أمامه، وقد يؤدى ذلك إلى أن يعتكف وحده ويعزل نفسه عن المجتمع لكى لا يتأثر حكمه بأى اتجاه قد يحيد به عن القانون وتطبيق أحكامه زمن ثم لا تتحقق العدالة المنشودة للاجئين للقضاء. ولذلك فمن المتفق عليه أن رمز العدالة هو السيدة حاملة الميزان ومعصوبة العينين ولهذا يطلق على العدالة الحقيقية بأنها "العدالة العمياء".
ولذلك فإن من أحد جوانب اعتزال واعتكاف القاضى لتحقيق العدالة العمياء هو عدم اشتغال القاضى بالسياسة ليس فقط بعدم الالتحاق بحزب سياسى، بل حتى من خلال إبداء رأيه فى مسألة سياسية خلافية مثله مثل رجل الشرطة وأفراد القوات المسلحة ومعظم مؤسسات الدولة السيادية، والتى يكون ولاؤها لسياسة الدولة وللأوامر الصادرة لهم من رؤسائهم، فلابد أن يكون رئيس القاضى هو نصوص القانون وأحكام محكمة النقض والدستورية والإدارية العليا بصفة أساسية، وإذا أراد أى شخص يشغل مركز فى هذه الجهات السيادية أن يعمل فى السياسة بكافة جوانبها العلنية والإعلامية، فعليه أن يتخلى عن مركزه ووظيفته لوجود التعارض المنطقى بينهما.
ولذلك فإننى أرى أن قرار المجلس الأعلى للقضاء والذى أعلنه السيد المستشار رئيس المجلس قد كان قرارا موفقاً ومتسقاً مع مهمة القضاء وكرامة القضاة وتحقيق العدالة، حيث إن تدخل القضاة فى العمل السياسى أو التعليق عليه وخاصة سياسة الدولة يعد أبداء للرأى الذى يفقد الثقة فى عدالة القاضى بالنسبة للقضايا التى يكون أحد أطرافها الدولة أو موظفى الدولة أو أى جهة أعلن القاضى رأيه فى سياستها وفى قراراتها، وهذا ما دعى إلى صدور قرار من مجلس القضاء الأعلى بشأن منع ظهور القضاة بالفضائيات واعتبار ذلك مخالفة يمكن أن يحال فيها القاضى إلى التفتيش القضائى للتحقيق معه لأنه يتعرض لأمور تخص سياسة الدولة وأحد الأهداف الأساسية للقضاء والقضاة فى المقام الأول والأخير هو تحقيق العدل لا الخوض فى السياسة.
وقد أكد قاضى القضاة المستشار رئيس محكمة النقض ورئيس مجلس القضاء الأعلى أن توحيد صفوف القضاة ولم شملهم هى قضيته الأولى، مؤكداً حرصه على العودة إلى الشموخ والعظمة التى عرف بها القضاة والقضاء المصرى بعيداً عن قضاة الفضائيات والصحف والوقوف بالأوسمة والأوشحة فى الشوارع، مشدداً على ضرورة البعد عن الصراخ والهياج الذى تحدثه "قلة تنزل الشارع بالتريننج سوت والبيجامات لتشتبك مع الأمن"، واصفاً ما حدث بـ"المهزلة" التى أضرت بالقضاء المصرى.
وتأكيداً لهيبة القضاة لم يقتصر منع القضاة من التعليق على سياسة الدولة والمشاركة فى الاحتجاجات والتظاهرات والاعتراض على بعض هذه السياسات بل امتد إلى منع القضاة إلى عدم التعليق على الأحكام غير النهائية فى القضايا التى تشغل الرأى العام، وخاصة أن ذلك أمر مرفوض فى الأعراف القضائية وبنص القانون يعتبر هذا الفعل جريمة. إن النائب العام، بنص القانون، له أن يحيل فوراً للمحاكمة الأشخاص العاديين الذين يقومون بالتعليق على أحكام قضائية لم تكن نهائية أو التعليق على قضايا مازالت متداولة بالمحاكم لمصادرة حكم المحكمة .
فقد نص القانون على حظر التعليق على الأحكام القضائية غير النهائية لأن ذلك سيحدث بلبلة فى الرأى وخاصة أن الأحكام لا يعتد بها إلا بعد أن تصبح نهائية، ولذلك حظر القانون التعليق على الأحكام القضائية وخاصة فى حالتين واضحتين وهما: أولاً المساس بهيئة المحكمة أو الإساءة إلى شخص القاضى الذى أصدر الحكم، والتشكيك فى كفاءته ونزاهته بأى شكل، وثانيا أن يكون التعليق على الأحكام بهدف التأثير على المحكمة فى قضية منظورة أمامها، ومن الواضح أن الهدف من هذا المنع هو المحافظة على هيبة القضاء وثقة الشارع المصرى بالقضاة وعدالتهم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة