فى ثلاثة مشاهد من مسلسل ناصر وحتى الحلقة الرابعة والعشرين، جاء اسم سيدة الغناء العربى أم كلثوم، تتصل تليفونيا بجمال عبد الناصر أو قرينته السيدة تحية، أو تهاتف عبد الناصر أو يهاتفها، وذلك فى إيحاء للعلاقة الوطيدة التى جمعت بين القطبين فنياً وسياسياً، ومن بين فصول هذه العلاقة تظل أيام العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 واحدة من الصفحات الوطنية المضيئة فى تاريخ أم كلثوم كما أنها قربت بين قرينة جمال عبد الناصر وأبنائه وبين أم كلثوم، وبالرغم من إشارة المسلسل إلى اتصال أم كلثوم بالسيدة تحية أثناء العدوان الثلاثى للاطمئنان عليها وعلى الأبناء، إلا أن هناك تفاصيل أخرى يرويها خالد عبد الناصر نجل الزعبم الراحل لليوم السابع قائلاً: كانت أم كلثوم تشاركنا الاحتفال بعيد ميلاد شقيقى عبد الحميد، ولما تلقى جمال عبد الناصر برقية تفيد بدء العدوان الثلاثى، أعد حقيبة له وذهب للإقامة فى مقر مجلس قيادة الثورة، أما نحن فانتقلنا إلى بيت خالتى فى الزمالك.
وكانت أم كلثوم جارة لخالتى.. حضرت إلينا، وطلبت منا أن نذهب معها كنوع من الزيارة إلى منزلها وأتذكر أنها قالت لخالتى بالضبط: (هاتوا الأولاد يلعبوا عندنا شوية).. كما أذكر أننا سألناها بتلقائية الطفولة: "عندك طبلة.. وعود.. نلعب بهم "فأجابت: "آه يا حبيبى عندى كل حاجة تحبوها... وإن ماكنش موجود أجيبها لكم"... وبالفعل ذهبنا معها إلى منزلها، وقضينا ما يقرب من ساعتين نلعب على العود والطبلة ثم عدنا إلى منزل الخالة... وبعد ذلك كانت تمر يوميا على بيت خالتى للاطمئنان أو تتصل تليفونياً.
كانت أم كلثوم واحدة من كتيبة الأبطال الذين احتاجهم عبد الناصر فى هذه اللحظات.. وكان قد سبق لها حتى عام 1956، أن قدمت أغانى وطنية مواكبة لأحداث الثورة مثل قصيدة "صوت الوطن" وغنوة "الجلاء" مع محمد الموجى عام 1954 .. غير أن انفعالها بالعدوان الثلاثى ولد نشيداً وطنياً رائعاً هو "والله زمان يا سلاحى" لصلاح جاهين وكمال الطويل، واتخذته مصر سلاماً وطنياً حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد.
يظل هذا النشيد علامة فارقة فى تاريخ الغناء العربى عامة، وأم كلثوم خاصة، بالإضافة إلى أن قصة ولادته، والظروف التى مر بها علامة مضيئة فى كيفية التعاطى الشخصى منها لقضايا الوطن، ومنذ سنوات روى لى الموسيقار الراحل كمال الطويل قصة هذا اللحن الذى ظل نشيداً وطنياً لمصر حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد، يقول الطويل: كان العدوان الثلاثى يواصل هجماته البربرية على مصر، والنار تشتعل بداخلى.. كنت فى حيرة ماذا أعمل فى هذه الظروف العصيبة، أخى فى الجبهة يحارب.. أنا أجلس فى المنزل اتصلت بصلاح جاهين الذى اعتبره (جبرتى الثورة).. قلت لصلاح: أنا فى دماغى مزيكة هأقولك شكلها.. كان شكل المزيكة هو مقدمة "والله زمان يا سلاحى".. قال صلاح (اقفل التليفون يا كمال).. وبعد فترة قليلة اتصل بى ليقول لى اسمع: (والله زمان يا سلاحى اشتقت لك فى كفاحى.
اتصلت بى أم كلثوم فى نفس الوقت.. وكانت على نفس حالتى... سألتنى: ماذا تفعل؟ .. قرأت لها كلمات جاهين، فطلبت منى الذهاب إلى منزلها فوراً.. وهناك وجدت عازف الكمان أحمد الجفناوى.. وعازف القانون عبده صالح.. وعازف الإيقاع إبراهيم عفيفى.. كانت هى على أتم الاستعداد فى كل شئ.. فرقتها موجودة ولياقتها الحماسية فى أوجها.. وحالة البلد العامة تضفى علينا جميعا هذا الحماس، وأذكر وقتها أن صفارات الإنذار انطلقت تنذر بغارة جوية وجلسنا جميعا على ضوء الشموع بينما الغارة مستمرة.. خرجت أم كلثوم فجأة من الصالون إلى "البلكونة".. قمت وراءها مسرعا.. قلت لها: (أدخلى بدل ما شظية تصيبك)، فردت بتأثر وحماس )شظية إيه يا كمال.. أنا نفسى أمسك طيارة أفعصها بصوابعى).
بهذه الحالة دخلت أم كلثوم إلى اللحن وغنته.. يقول الطويل: غنت أم كلثوم والله زمان يا سلاحى.. بإحساس فاق تخيلى).. يضيف: (بعد الانتهاء من إعداد اللحن طلبنا تسجيله فى الإذاعة فنصحونا بالتسجيل فى استوديو مصر خوفا من ضرب الإذاعة، حيث إنها تكون هدفا أوقات الحروب، كما أن شهية الأعداء قد تزداد لضربها، فى حالة معرفتها أن أم كلثوم متواجدة فيها.. لكن أم كلثوم رفضت، وقالت فى حسم (أموت فى الإذاعة أحسن ما يقول حد إن أم كلثوم هربت).
يضيف الطويل: كان اللحن نوعية جديدة أقدمها كملحن شاب، والسبب أننى تخيلت أم كلثوم وهى تعبر عن الجندى المصرى، والمفروض أن الإيقاع المناسب لذلك هو إيقاع 2/4/ المعبر عن الحماس والتوهج فى نقل خطوات الجنود.. غير أننى وضعت اللحن بإيقاع ثلاثى.. لدرجة أخافت أم كلثوم فى البداية. سألتنى: أنا أعرف أقول ده يا كمال!!؟ قلت لها: تقولى طبعا. بعد انتهاء التسجيل أتذكر أول تعليق قالته لى: " إنت أرهقتنى قوى يا كمال".
على خلفية مسلسل "ناصر"
سعيد الشحات يكتب عن أم كلثوم وعبد الناصر عام 1956
الخميس، 25 سبتمبر 2008 08:24 م