على غير العادة، فاجأنى رمضان هذا العام غريباً.. باهتاً.. شديد الشحوب، وقد فقد كثيراً من بهائه ورونقه الذى اعتدناه منذ سنين الصبا والطفولة، لتفارقه أغلب مظاهره التى ارتبطنا بها وألفناها..
أنظر إلى الشوارع والناس وأرجع بذاكرتى إلى الوراء.. إلى سنوات قليلة مضت -إلى غير رجعة على مايبدو- لأجد الناس فى لهفة وشوق إلى شهر الصيام والخيرات، بينما الشوارع مزدانة بالشرائط الملونة، والزينات المعلقة التى يتوسطها دوما فانوس ضخم، قلّما يخلو منه بيت أو شارع.
أتذكر لهفتى وإخوتى فى انتظار الشهر الفضيل.. رمضان بعد أسبوع.. 3 أيام على الصيام.. النهاردة الرؤية، كل سنة وانتوا طيبين، ورمضان كريم. أفيق من شرودى على سبة بذيئة يطلقها سائق تاكسى فى وجه زبونه الذى يرد عليه سبته بأخرى أكثر منها بذائة كنتيجة طبيعية لخلافهم حول الأجرة فى ظل الحالة المستعصية من غياب الشفافية بين السائق والزبون -عن العداد أتحدث- ليتضخم السؤال بشدة، حتى يكاد يلتهم تفكيرى.. ماذا حدث بالضبط يا سادة؟!
أين شهر رمضان الذى كنت أعرفه؟.. هل العيب حقاً فى الناس، أم أن "العيب فى النظام" كما لخصها محمد أمين بعبقرية فى "فيلم ثقافى"؟!
تعالوا معى نفكر سوياً ونحن نمسك بالقلم -كعادتى فى ترتيب أفكارى– علّنا نجد تفسيراً..
بداية جاء رمضان هذا العام متزامناً مع دخول المدارس، مع ما يمثله دخول المدارس من عبء اقتصادى ضخم على الأسرة المصرية، التى ما تلبث أن تحشد إمكاناتها المتواضعة لدخول المدارس، لتفاجأ بـ "رمضان" الذى -ولأنه كريم- يقفز فيه معدل الإنفاق إلى الضعف تقريباً، مع عدم إغفال أسعار السلع الغذائية والتموينية -أهم سلع رمضان- التى تضاعفت أسعارها كذلك كتطور طبيعى لسوء الإدارة الاقتصادية فى ظل الحكومة الحالية، خاصة والأخيرة -الحكومة- تلعب مع المواطنين لعبة "القط والفأر" الشهيرة.. زيادة مرتبات 15% -أصبحت 30% هذا العام- تقابلها زيادة فى الأسعار 100%، ليجد المواطن المغلوب على أمره حاله من سيئ إلى أسوأ، فيتمنى أن تأخذ الحكومة "الزيادة بتاعتها"، ويرجع الوضع إلى ما كان عليه، فترد عليه الحكومة وقتها مستعيرة قول كوكب الشرق "عاوزنا نرجع زى زمان.. قول للزمان ارجع يازمان!".
وتستمر أزمة الثقة بين الحكومة والشعب الذى يفقد كل أمل فى إصلاح أوضاعه المتدهورة، بل يقتصر أمله فقط على بقاء أوضاعه على تدهورها الحالى، الذى هو بالتأكيد -والتجربة- أفضل من "التدهور القادم".. وهكذا استقبل الناس رمضان وهم فى حيرة بين الاحتفال بالشهر الكريم، وبين طوارئ المدارس وإرهاب الدروس الخصوصية، فغابت عن الشهر الكريم، نتيجة للضغوط المضاعفة، أهم مظاهره وقيّمه الروحية والأخلاقية "انظر سائق التاكسى وزبونه طويلى اللسان".. كذلك طقوسه المعهودة من زينات وتعاليق فانوس رمضان "صنع فى الصين".. أما القيم الدينية فاختزلت فى المسلسلات الدينية التى يجلس أمامها الناس مشدودين "متصعبين"، ولسان حالهم يقول "ياسلاااااااام .. الناس دى متتعوضش" ، بينما تسمع بوضوح صوت الإمام فى المسجد القريب، وهو يؤم الناس فى صلاة الظهر أو العصر.
هكذا فوجئنا جميعاً بـ "رمضان" غريب علينا، عجيب أمره وقد تضافرت فيه بلادة الناس وكسلهم، مع الأداء الحكومى المرتفع -أسعاراً ليس إلا– وليتجرد الشهر الكريم من مضامينه التى تختزل فى الكاميرا الخفية ومسابقات الـ 0900 ، وليظل المسلسل الأشهر "رمضان كريم .. حكومة بخيلة" مستمراً.. حتى بعد الفاصل!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة