لماذا يشعر المسئولون والوزراء والمحافظون بالذنب تجاه الكوارث التى تحدث فى دوائر اختصاصهم، ما دامت مصر لا تعترف بتهمة اسمها "المسئولية السياسية"؟
لم يقدم فاروق حسنى وزير الثقافة المصرى استقالته عقب حريق قصر ثقافة بنى سويف، ولم يسحب البرلمان المصرى منه الثقة من واقع المسئولية السياسية عن الحادث، كما أن وزير النقل باق على كرسيه الوزارى بعد غرق عبارة "السلام 98" لأنه ليس مسئولا جنائيا عن الحادث، ولم يطرف أحد عينى محافظ مرسى مطروح بعد حادث القطار الشهير، ولم يعلن محافظ القاهرة استقالته كانفعال إنسانى لكارثة الدويقة، لأنه ببساطة: لا حساب للسيد المسئول فى مصر.
حين يغيب مفهوم المسئولية السياسية فى بلد ما، يصبح كل مسئول متصرفا فى "عزبته" كيف شاء، لأنه لا يشعر بأن هناك لحظة للحساب، أى أنه سيقف أمام من يحاسبه فى بر مصر، فالمناصب ليست مسئولية، وإنما عطايا أو هدايا، لا يجب محاسبة من يسىء استخدامها.
علامات استفهام واضحة لمن متعهم الله بالعين الناظرة، والقلب الذى ينفطر للأهوال، تطرحها كوارث إنسانية متعاقبة، وتسجل دائما ضد مجهول على الرغم من أن المسئول الأول معلوم، ومربوط فى مقعد محدد، ورغم ذلك لا يحاسبه أحد، بل يذهب إلى مسرح الحادث للتثبت من الكارثة، ويوزع تصريحاته.
تعاطف الحكومة وتعويضاتها ودموع الثكالى والمحزونين، لن تنفع فى شىء، لن ترد ضحايا محرقة قصر ثقافة بنى سويف، وضحايا العبارة "السلام 98"، ومعوقى كوارث القطارات التى باتت موقوتة ومعتادة.
يبكى بعض ممن التقتهم اليوم السابع من أهالى ضحايا تلك الكوارث فى مصر، مؤكدين أن التعويضات المخزية، ولا حتى الثمينة، كفيلة بتعوضهم عن مجرد ذكرياتهم المغتالة بألسنة نيران المسرح، أو تلك الذائبة فى بطون الحيتان، وغيرها التى حصدها الإهمال فى مواطن عديدة.
ويبكى بعض من هؤلاء حال هذا البلد الذى لم يعد آمنا على أبنائه، فى ظل غياب المحاسبين السياسيين، وفى ظل التهاون مع المسئولين المقصرين فى أداء واجباتهم، ليعم الفساد، البر والبحر، والمسرح، وحتى البيوت.
عبد الغفار شكر المفكر اليسارى، ونائب رئيس مركز البحوث العربية والأفريقية، يقول إنه لا مكان للمسئولية السياسية إلا فى الدول الديمقراطية التى تعيش فى ظل نظام ديمقراطى، له كل مقومات الحكم السليم الذى يعتبر نفسه - فى المقام الأول - مسئولا عن الشعب.
أما فى مصر - والحديث لعبد الغفار شكر - فالوضع مقلوب، حيث لا يوجد تداول حقيقى للسلطة، لذا يصبح المسئول ضامنا أن الشعب لا يملك حق محاسبته، لأنه لا يفتقد آلية المحاسبة.
ويعدد عبد الغفار شكر مواطن الخلل فى النظام المصرى، منها: تزوير الانتخابات، هيمنة السلطة التنفيذية - طبقا للدستور - على مقدرات البلاد والعباد فى الدولة، وتجريد مجلس الشعب من اختصاصاته فى محاسبة التنفذية المتمثلة فى السادة المسئولين، وإن كانت هذه الاختصاصات مثبتة فى الدستور، كدور رقابى لمجلس الشعب، لكن تظل حبراً على ورق.
أما الدكتور وحيد عبد المجيد نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، فيرى أن علو المصالح الخاصة على المصالح العامة، ينفى مفهوم المسئولية السياسية التى تنتج فى ظروف نظام سياسى ومقومات ديمقراطية، ينتفى مفهومها فى حالة غيابها.
ويضيف عبد المجيد أنه بتطبيق النظرية على حالة مصر، نجد أن مفهوم المصلحة العامة تلاشى أمام تضخم المصالح الخاصة للمسئولين، مما أثر على أمور كثيرة من بينها المسئولية السياسية التى انعدمت لدى السادة المسئولين.
من جهته، يرى الدكتور أحمد أبو بركة النائب الإخوانى فى مجلس الشعب، أن غياب النظام السياسى الصحيح فى حكم مصر، هو أصل الأزمة فى تطبيق المسئولية السياسية، مشيراً إلى أن المشكلة الحقيقة تكمن فى النظام السياسى المشوه، والذى تغيب عنه مفرادات الحكم الرشيد.
ويضيف أبو بركة أن نظام الحكم فى مصر قائم على اغتصاب السلطة والانفراد بمجريات الأمور فى المجتمع كله، وإقصاء الشعب، مع حرص النظام المستمر على تزوير الانتخابات، ولذلك كله تنعدم المسئولية السياسية فى ظل التناهى القائم بين مؤسسات الدولة وتذويب السلطات فى بوتقة واحدة، "بحيث لا نجد سلطة تشريعية بالمعنى الفنى، ولا تنفيذية بالمعنى المستقل، ومن ثم لا تجد مسئولية فعالة".
ما يدعم هذا الاتجاه أيضا، عدم وجود رأى عام قوى يحاسب المسئول فى حالة خطئه، وفى المقابل لا يقدم هذا المسئول استقالته التى تعبر عن خزيه حيال تقصيره فى القيام بمسئولياته السياسية تجاه الرأى العام، لأن ولاءه عادة يكون لمن أهدى له مقعد السلطة.
معنى المسئولية السياسية للمسئولين فى مصر، كما عرفها مجدى الدقاق عضو لجنة السياسات بالحزب الوطنى، مرهون بالتطور السياسى والاجتماعى والثقافى للمجتمع الذى تطبق فيه، "فعندما يحدث خطأ ما فى مكان ما، يجب على المسئول السياسى الأول أن يعلن تحمله المسئولية السياسية لهذا الخطأ".
ويضيف الدقاق أن هذا هو التطبيق النظرى لمفهوم المسئولية السياسية فى دول العالم الأول، "أما فى دول العالم الثالث ومن بينها مصر، التى لم تأخذ بعد وقتها فى التطور السياسى، يصطدم فيها هذا المفهوم النظرى مع تقاليد المجتمع وتطوره وخبرته السياسة، فعندما يحدث خطأ ما يجب أن تحدد المسئولية على رأس الشخص المسئول مباشرة، ويعاقب على تقصيره الذى أدى لوقوع الخطأ".
رغم هذا التحليل النظرى والعملى لتطبيق المسئولية السياسية فى مصر، أكد عضو لجنة السياسيات بالحزب الوطنى، أن المسئولية يجب أن تقع على رأس صاحب القرار الأول فى موقع أى كارثة، "لكن بشرط أن نعطيه الصلاحيات الكاملة والوقت الكافى لإزالة أخطاء من سبقه فى المسئولية، حتى لا نحاسبه على أخطاء ارتكبها غيره".
السبب فى وصول المسئولين إلى تلك الحالة، يتجسد فى التعيين فى المناصب القيادية، والحديث للنائب الإخوانى أحمد أبو بركة، "فمصر حتى الآن لم تعرف الانتخابات الحقيقية على كرسى القيادة، فهذا المسئول الذى أخطأ لم يأت بالانتخاب، ليحاسبه من أخطأ فى حقهم، وبذلك لا توجد عليه أى مسئولية سياسية، لأن من عينه هو مصدر السلطة، وليس الشعب، وهنا يكون الولاء للأول، واللامبالاة للشعب.
السؤال الذى يطرح نفسه: هل انعدام المحاسبة عن المسئولية السياسية سببه نظام التعيين فى المناصب القيادية من دون انتخاب؟
يجيب الدكتور وحيد عبد المجيد بأنه ليس شرطا، أن يكون التعيين هو السبب الوحيد فى العلة محل البحث، "بل يمثل أحد العناصر فقط، ففى الصين مثلا، لا توجد انتخابات على أى موقع فى الدولة، ولكن هناك مفهوم قوى للمصلحة العامة، وإذا حدثت كارثة فى قطاع مسئول سرعان ما يقدم استقالته تجسيدا لمعنى إحساسه بمسئوليته السياسية وتأكيدا على قرنية المسئولية السياسية للمصلحة العامة التى حين تتضاعف يتلاشى الشعور بالمسئولية السياسية حتى لو هناك انتخابات حقيقة.
السبب الأقوى من إشكالية التعيين والانتخاب، فى رأى د. وحيد عبد المجيد، يتمثل فى التحجج الدائم بالمسئولية الجنائية، فلا يوجد فى مصر محاكمات سياسية، "كل المحاكمات التى تمت بعد حدوث الكوارث، عبارة عن محاكمات جنائية، لأن الأولى لا تتوافر إلا فى الدول التى تملك أنظمة سياسية قائمة على الانتخابات الحرة النزيهة، التى مع غيابها ينتفى مبدأ المحاسبة السياسية للمسئول".
المسئولية السياسية تمثل هرم النظام السياسى فى كل دول العالم، فهى الأصل، ومن بعدها تأتى المسئولية الجنائية، وإذا وصل الرأى العام لمرحلة من عدم الرضاء، فيجب على المسئول أن يقدم استقالته، وهذا هو المعنى الحقيقى لجملة شهيرة تقول: إن الشعب مصدر رئيسى للسلطات.
الكوارث فى مصر دائما مرتبطة بعد حدوثها بسيل من الاستجوابات تحت قبة البرلمان، ويقدم الاستجوابات نواب من كافة الاتجاهات والانتماءات الفكرية والسياسة، ومعهم نواب الحزب الوطنى، لكن رغم قوة الكوارث وكثرة الاستجوابات والمناقشات، لم يخرج البرلمان المصرى خلال تاريخه الحديث بقرار سحب الثقة من أى مسئول وقعت الكارثة فى محيط مسئوليته.
ودورة حياة الاستجوابات فى مجلس الشعب - كما يوضح أبو بركة، خاصة المرتبطة بكارثة آنيه دائما ما تبدأ من النواب، ثم تنتهى بتصويت الأغلبية الحكومية المعاكس على القرار تحت شعار عدم وجود مسئولية جنائية لسيادة المسئول فى ظل انعدام ثقافة المحاسبة على أساس المسئولية السياسية.
أغلبية الحزب الوطنى داخل مجلس الشعب تؤكد دائما أن المجلس لا يستطيع سحب الثقة من أى مسئول فى الحكومة، وفقا لعبد الغفار شكر، فى ظل وجود معارضة ضعيفة لا تستطيع مواجهة الأغلبية، وفى ظل رأى عام مغيب بوسائل إعلام تجمل وجه الحكومة، وبالتالى يبدأ الاستجواب بالشجب والتنديد من قبل المعارضين، وينتهى بتوجيه شكر الأغلبية للمسئولين دون أدنى محاسبة أو مسألة سياسية للمسئولين الذين يفتقدون الإحساس بالمسئولية السياسية.
"نحن أمام أزمة حقيقة لا أرى لها حلا فى الوقت الراهن لا"، هكذا قال المفكر اليمينى الدكتور وحيد عبد المجيد الذى اختلف معه فكريا ونظريا المفكر اليسارى عبد الغفار شكر، حول وضع أسس حل يكمن فى توفير نظام ديمقراطى يقوم على تداول السلطة من خلال انتخابات حرة توازن العلاقة بين السلطات الثلاثة للدولة يكون لمجلس الشعب الحق من خلالها سحب الثقة من المسئولين فى حالة حدوث كوارث فى قطاعتهم، بعد أن تكون لدى المسئولين حاسة لمسئوليتهم السياسية تجاه ما يحدث فى حقائبهم السيادية مع ضرورة إنهاء سيطرة النظام على وسائل الإعلام لخلق رأى عام قوى قادر على محاسبة المسئولين على أخطائهم السياسية.
محاسبة المسئول الأول اعتبرها عضو لجنة السياسيات بالحزب الوطنى خطوة لتكريس مركزية الحكم فى مصر، "فكيف يحاسب وزير الثقافة على سبيل المثال فى كارثة حرق مبدعى قصر ثقافة بنى سويف، وهو ليس مسئولا مسئولية "جنائية" مباشرة عن الحريق.
يشير الدقاق إلى أن الهرم الوظيفى المترج تحت درجة الوزير، هو المعنى بالمحاسبة الجنائية عن حدوث الكارثة، لأن الوزير الذى يشرف من خلال وزارته على الأنشطة الثقافية فى 25 محافظة، سوف لن يكون مسئولا عن وقوع الكارثة مسئولية مباشرة، لذا يجب أن يعاقب مدير عام قصر الثقافة، ولا نحاسب الوزير، وذلك لغياب توصيف المسئولية السياسية عن كل ما يقع فى دائرة اختصاص وزارته.
إجابة قاطعة اتفق عليها المحللون السياسيون من أقصى اليمين حتى أقصى اليسار فى مواجهة رأى مجدى الدقاق عضو لجنة السياسات فى الحزب الحاكم، الذى أكد وجود إشكالية تتعلق بتحديد سلطة المسئول التى تقابلها إشكالية مركزية الحكم فى مصر.
بناء على ما سبق، طالب المحللون الذين استطلعت اليوم السابع آراءهم فى هذا التقرير، بضرورة إعادة النظر فى الإدارة المحلية، وإعادة توزيع الاختصاصات، لفك الاشتباك المركزى فى دور المسئول ومن ثم نحاسبه فالوزير على سبيل المثال رجل سياسى يضع الخطط العامة وعلى القائمين على الوزارة تنفيذ هذه الخطط، لذا يجب معاقبتهم حال تقصيرهم فى أداء مهمتهم.
إذا أخطأ موظف ما وتسبب فى كارثة، فما المسئولية الجنائية للوزير المختص؟
يجاوب مجدى الدقاق على هذا السؤال بأنه لا توجد مسئولية "فالجريمة فردية"، ويجب أن يحاسب الوزير على أساس المسئولية السياسية، عندما يفشل فى تحقيق أهداف الوزارة وسياستها، وهنا يجب عليه أن يقدم استقالته.
فى ظل غياب مفهوم المسئولية السياسية
منصور ووزير وحسنى.. سر الخروج كالشعرة من العجين
الجمعة، 12 سبتمبر 2008 03:54 م