لم تعرف فكرة العمل الحقوقى الممنهج دفاعاً عن المظلومين والمضطهدين فى مصر، بسبب أرائهم ومعتقداتهم وجودها فى وقت مبكر من التاريخ السياسى المصرى أو العربى بشكل أكثر شمولية.
ففى الوقت الذى نشأت فيه حركة حقوق الإنسان فى أوروبا والمجتمع الغربى بمناسبة الثورة الفرنسية وتأكد دورها فى ذروة دفاع أوروبا عن نفسها ضد الاجتياحات الألمانية, لم تعرف المنطقة العربية بلورة لتلك الحركة لمواجهة الاحتلال الأجنبى, ربما اقتصرت الحركة الوطنية على فكرة التحرر من الاحتلال مع شيوع فكرة التغريب التى سيطرت على رموز وقادة الحركة الوطنية، رغم أن الإسلام تضمن منظومة رائعة لمبادئ الحريات العامة وفى صدارتها حرية الرأى والتعبير كقوله "لا إكراه فى الدين"، وقوله "وإن أحدا من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه"، وقوله تعالى "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، وقول الرسول الكريم "لا فضل لعربى على أعجمى ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"، وقول الخليفة الراشد الأول عند ولايته "وليت عليكم ولست بخيركم"، وغير ذلك من الآيات والأحاديث والتعاليم التى تحض على كفالة الحريات العامة, غير أن اللافت أن فترة الاحتلال الإنجليزى لمصر والتى نشطت خلالها حركة التحرر الوطنى، وعرفت الصحافة المصرية تحت الاحتلال مساحة حرية واسعة انكمشت بشكل كبير بعد ثورة يوليو 52 والتى شيئاً فشيئاً كرست الاستبداد والرأى الواحد والحزب الواحد تحت دعاوى الثورية ومقاومة الاستعمار والحروب المتعاقبة.
لا شك أن الهدف الحقيقى لخريطة عمل منظمات حقوق الإنسان هو تحقيق الديمقراطية فى المجتمعات التى تعانى الاستبداد والظلم, والذى لا شك فيه أن أسلوب عمل تلك المنظمات الحقوقية يختلف عن طبيعة الأحزاب السياسية, ومن ثم فلا مجال للقول إن المنظمات مؤسسات حقوقية لا تعنى بالعمل السياسى فى سبيل تهرب رموز العمل الحقوقى من واجباتهم الاستراتيجية فى مكافحة نير الحكومات المستبدة.
لا يمكن القول إن تلك المنظمات أو المراكز والهيئات تتفلت من مسئولياتها فى مواجهة تحديات الداخل تحت ذرائع عدم ممارسة العمل السياسى أو الحزبى, فلم يكن مطروحاً على بساط البحث أصلاً تلك المبررات الساذجة, بقدر ما هو مطلوب منها تكريس فلسفة العمل الحقوقى فى مقاومة كل سياسات الإقصاء وتكميم الأفواه وحرمان الفصائل الوطنية من حقها فى العمل السياسى والجماهيرى ومنعها من حقها فى الرأى والتعبير والإضراب والاعتصام وكل وسائل وأساليب العمل الجماهيرى المؤسسى المستمد من الدستور, تلك هى تحديات الداخل بكل وضوح تمكين الشعب بكل فصائله وألوان طيفه السياسى من حقوقه الدستورية وكبح جماح السلطة أى سلطة وفى أى وقت من التغول على حريات المواطنين خلف أى ستار وتحت أى مبررات.
حقيقة إن نظرة الأنظمة العربية لحركة حقوق الإنسان ومنظماتها المختلفة نظرة لا تختلف عن سياساتها المستبدة فى مختلف الملفات التى تتعلق بالديمقراطية وطبيعى أن تضع تلك الأنظمة - إلا من رحم ربى منها - العقبات المتنوعة لتعويق حركتها وإثارة الاضطرابات فى طريقها وأبرزها نشر الشائعات المسيئة ضد رموز وقادة تلك الحركة، فأغلبهم ملاحقون تحيط بهم الأراجيف حتى يستسلم منهم بعضهم فيقبلوا التسوية الحكومية وينضووا تحت لوائها، كما حدث فى مصر بضم ثلة كبيرة داخل الوعاء الحكومى فى المجلس القومى لحقوق الإنسان, بينما لم يزل البعض الآخر يقاوم تلك المنظومة الحكومية البائسة ولو كلفه هذا السجن أو النفى أو التشهير, فنظرة الحكومات العربية لمنظمات حقوق الإنسان نظرة رجعية استبدادية.
ورغم أن حركة حقوق الإنسان شهدت ميلادا قويا فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى فى ضوء الانتهاكات التى مارسها النظام ضد أعضاء الجماعات الإسلامية فى السجون والمعتقلات، فى أواخر أيام السادات، أو بعد اغتياله, وبعد صدور حكم محكمة أمن الدولة طوارئ التى أمرت بالتحقيق فى وقائع التعذيب التى تعرض لها المعتقلون داخل السجون لإكراههم على الاعتراف, وتأسست فى ذلك الوقت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، ورغم أن القائمين على أمرها فى تلك الآونة من اليساريين والمراكسة السابقين الذين تحولوا لمناصرة العمل الحقوقى فى مرحلة انتقالية من تاريخهم وتاريخ مصر فى آن، إلا أنهم التزموا بمعايير العمل الحقوقى دون النظر للاعتبارات السياسية أو الأيدلوجية للذين مورس ضدهم التعذيب, وكان هشام مبارك نموذجا رائعا فى تأصيل فكرة العمل الحقوقى آنذاك فى ظل رعاية بهى الدين حسن أول أمين عام للمنظمة, وكانت وفاته انتكاسة قوية أصابت العمل الحقوقى فى مقتل.
لا شك أيضا أن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان سرقت من بين يدى كل الذين علقوا عليها آمالا كبارا، وجرت خصخصتها جهارا نهارا أمام كل محبيها دون احتجاج أو طعن على الخصخصة أو الاستيلاء عليها بمعرفة ثلة قليلة من أصحاب المصالح. تبقى إشكالية التمويل أحد أهم أسباب تعطل مسيرة العمل الحقوقى, فقبول التمويل الأجنبى بشكل واسع حوّل نظام العمل بها إلى بزنس لا علاقة له برسالة مقدسة هى تحمل كلفة الدفاع عن المظلوين والمضطهدين بسبب أرائهم ومعتقداتهم وللحديث بقية.
منتصر الزيات يكتب لـ "اليوم السابع": العمل الحقوقى أصبح "بزنس"
الأربعاء، 10 سبتمبر 2008 09:33 م