الإغراء الإعلامى يشبه إلى حد ما الإغراء فى العمل الدبلوماسى، فعندما يعين الدبلوماسى فترة طويلة فى إحدى الدول التى يمثل بلاده فيها، فهو إما يكره كل ما يتعلق بها ويحرض دولته عليها، أو أنه يتفهم وجهة نظرها حتى المخالفة لبلاده، ويحاول تقليل أهمية الفوارق بين الموقفين، وأحياناً يشعر بالميل الداخلى لوجهة النظر المخالفة لوجهة نظر بلاده، ويحدث ذلك عادة فى القضايا الكبرى، مثل دبلوماسية الأزمة فى العراق عقب غزوه للكويت، حيث لا أظن أن دبلوماسياً عراقياً عادياً أفلت من لوثة التعصب القومى أو السياسى عندما يقر التهام بلاده للكويت، كما حدث ذلك إبان الفتنة الكبرى التى أعقبت تقارب مصر من إسرائيل أعوام 1977- 1979 وانقسام العالم العربى وما أصاب العمل العربى المشترك والجامعة العربية فى هذه الفتنة. ففى هذين الحدثين الكبيرين والحاسمين فى تاريخ العرب المعاصر اختل ميزان العقل العربى، وانسحب ذلك بدوره على موازين العمل الإعلامى والدبلوماسى.
وخلال العدوان الإسرائيلى على لبنان دافع الإعلام اللبنانى والعربى والدولى عن الشعب اللبنانى ضد البربرية الإسرائيلية، وانتقد بمرارة الموقف الأمريكى والدولى المساند للعدوان والذى أطال المدة اللازمة لكى تحقق إسرائيل أكبر قدر من الإبادة للبنان أملاً فى اقتلاع المقاومة. ولكن إسرائيل التى ضاقت بهذا الزخم الإعلامى الذى فضح عدوانها لم تجد غضاضة فى أن تقوم قناة المنار التابعة لحزب الله بحملة ضدها، على أساس أن الصراع كان أساساً- على الأقل فى نظر إسرائيل- صراعا بين إسرائيل وحزب الله، ولكن إسرائيل أبدت عتاباً على الإعلام اللبنانى ونقداً لموقفه، حيث كانت إسرائيل تأمل بفصل حزب الله عن بقية القوى اللبنانية حتى تقضى عليه، بعد أن أصرت على أن حربها ليست ضد لبنان "الصديق".
وكان طبيعياً أيضاً أن تقبل إسرائيل موقف الفضائيات والصحف العربية، ولكنها توقفت أمام "الجزيرة" ووجهت نقداً شديداً لمكتبها فى بيروت، بل وحاولت قصفه مثلما فعلت فى مكتب الجزيرة فى بغداد، واعتبرت إسرائيل أن فريق الجزيرة منحاز للبنان ضد إسرائيل، وأنه كان يجب عليه أن يكون محايداً فى هذه المعركة. هذه القضية تدق بشكل أكبر كلما تعلق الأمر باللبنانيين والفلسطينيين، فهل يمكن أن يكون اللبنانى أو الفلسطينى محايداً فى الصراع بين بلده وإسرائيل؟ أم أن القضية تتعلق بسياسة القناة التى يعمل فيها، وهل الجزيرة مثلاً يجب أن تكون محايدة فى قضايا الصراع مع إسرائيل حتى تكون مقبولة من الطرفين؟ أم أن الجزيرة جزء من الخط الإعلامى العربى الذى يدافع عن القضايا العربية، مثلما يدافع الإعلام الصهيونى عن السلوك البربرى الإسرائيلى؟
لا شك أن الحل هو التزام المهنية الإعلامية التى تقتضى عرض كافة وجهات النظر وتغطية كافة التطورات وتقديم تفسيرات لها من جانب أصحابها، وبذلك يستفيد المشاهد ويحكم بنفسه على التصرفات. ونحن لا يجوز فى هذا السياق أن نغفل فنون العمل الإعلامى فى الصورة والخبر والتعليق والتركيز وغيرها. ولحسن الحظ من هذا الجانب، فإن التزام المهنية يجب أن يكون المعيار الأمثل فى الإعلام العربى الدولى حتى يكتسب مصداقية رسالته وهو ما يخدم فى ذاته المواقف العربية، لأن مشكلة الإعلام الصهيونى هى محاولة الالتفاف على الحقائق وتلفيقها وتقديم تفسير مشوه للصورة مثلما حدث فى قضية محمد الدرة.
إن الإعلام العربى مطالب بالدفاع عن قضايا الأمة، وأن أفضل طريقة لعرض هذه القضايا هو التزام أعلى درجات المهنية الموضوعية التى تبغى الحقيقة وحدها، وعندها تلتقى المصلحة العربية مع هذه الحقيقة فى صراع تستخدم فيه كل فنون الخداع والتزوير والتلفيق والتأثير الإعلامى الطاغى.
سفير د.عبدالله الأشعل
إشكالية الفاصل بين الانتماء والمهنية فى الإعلام العربى
السبت، 09 أغسطس 2008 12:01 ص