مى الشربينى

حضرتها وبنت السائق الكندية

الإثنين، 04 أغسطس 2008 01:29 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لماذا كنت أُضحوكة عندما قلت لعاملة النظافة بمنزلنا: "ممكن حضرتك تجيبيلى كوباية مياه؟"، حوّل هذا السؤال حديثى مع مجموعة كبيرة من الأصدقاء عن سماء شرم الشيخ، والاسترخاء النفسى الحقيقى فى هذا المكان، وما ينتظرنا هذا الصيف فى الساحل الشمالى من امتداد لصخب القاهرة وبعض مظاهر سباقات "المنظرة" فيما نسميه مجازاً "إجازة". تحوّل الحديث الى محاولة لتحليل الشخصية المصرية!

السائلة فى العشرين من عمرها, مصرية الأب والجد والأصول والجذور والنخاع، وأيضاً الملامح بنت عائلة قريبة جداً لى روحاً وفكراً وأسلوباً فى المعيشة, لكنها فقط تربت فى مجتمعات متحضرة مختلطة الجنسيات فى عدة دول عربية وكندا. تقول إن هذه المسألة تؤرق زيارتها السنوية لمصر. "لماذا هذا الفصل الواضح بين طبقات المجتمع الذى يظهر حتى فى مخاطبتنا لبعضنا البعض؟ لماذا لا أقول للعاملة بالمنزل"حضرتك"؟ ولماذا يحدثنى أى عامل يقوم بخدمتى ليس باحترام وأدب كما أتوقع ولكن بخشوع وخنوع أحياناً؟"

تبارى الخمسة عشر صديقا لمدة ساعتين فى التحليل. فالرد أبعد ما يكون عن السطحية. اجتمعنا على أنه طبيعى ولا عيب فى اختلاف الطبقات ( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)الزخرف آية 32. لكننا اختلفنا فى تفسير المظاهر السلبية للطبقية. إنها متأصلة فى الشخصية والثقافة المصرية على مر العصور، هذا ما رآه البعض، نحن شعب عنصرى مثلنا فى ذلك مثل معظم شعوب العالم الثالث، نفرق فى المعاملة والحقوق والواجبات.

من باب التجربة أدخل يوماً محل بقالة أو مقهى فى أى مكان، وإن كان شعبيا، لابساً تى شيرت وحذاء قديم وصف سيارتك بعيداً، وادخل أنت نفسك نفس المكان فى اليوم التالى بالبدلة والكرافت والنظارة الأرمانى وصف سيارتك أمام المحل. فى أغلب الظن ستشك فى نفسك..."هل أنا نفس الشخص؟" الفارق فى معاملة البائع" و،القهوجى" سيكون فاضحا ومهينا، ستدرك أن العنصرية متأصلة حتى فى الطبقات الدنيا والمتوسطة.

أصرت الفتاة الصديقة على سؤالها بشكل مختلف:"لماذا أتحدث فى كندا مع النادل مثلاً باحترام متبادل مع احتفاظى بكامل حقوقى فى أن يقدم لى الخدمة على أكمل وجه، بينما هنا يتحدث إلىّ النادل بخنوع دون أن يقدم لى الخدمة كما ينبغى؟" كانت الإجابة سريعة: لأنه هناك فى الغرب يعلم ويعلم أنه يعلم فينعكس ذلك على أسلوبه، وترينه مهنيا وواثقا من نفسه، أما هنا فهو فى معظم الأحوال لا يعلم، فإن كان يعلم أنه لا يعلم, يبدو عليه الضعف وعدم الثقة فى النفس، وإن كان لا يعلم أنه لا يعلم فويلٌ لك ولكل زبون، لامهنية وثقة زائفة وصفاقة مصطحبة باللامنطق و"الفتىّ".

رأى صديق آخر عائد من الإمارات أن هذا مُشابه لحالنا بالخارج أيضاً، ألا يشعر المصرى فى الخارج تلقائيا وبدون مبرر بــدونية؟! (عفواً... توصيف جارح ولكن قد يكون واقعيا ولو جزئيا) ألا نشكو دائما من أننا مضطهدون فى الدول العربية لأننا مصريون؟ ألا نتباكى على حظنا التعس برغم خبراتنا المهنية لأن اللبنانى "واخد مكاننا! عشان يعنى حاطط جل وعارف يتكلم ويسوّق نفسه؟"، ألا يشكو أحدنا كل صباح من الشيخ فلان أو علان؟" هو يعنى هيشترينا بفلوسه؟"، وسواء كان سبب ذلك نقصا حقيقيا فى مهارتنا وقدراتنا، مما أشك فيه، أو عدم ثقة بالنفس غير مبررة، فإن هذه الحالة تعكس شعوراً بالدونية فى رأى صديقنا، حالة نعيشها أيضاً فى الداخل مع الآخر الأغنى أو الأوسع شهرة أو الأكثر سلطة، حتى إن كان الأضعف على المستوى الثقافى أو الإنسانى.

ربما يساعد على تعميق هذه الحالة أيضاً هذا الآخر الذى يتعامل مع من دونه "بالذراع"، هذه التحليلات أو محاولات التحليل لم تقنع صديقتى الشابة التى رآها البعض مثالية! وفى رأيها أن العنصرية والدونية ستتغير إذا أصرت طبقة رأس الهرم على معاملة كل من دونها بندية وأخذت بيدها لتتغلب على هذا الداء. هنا تدخلت صديقة أخرى عائدة منذ سنوات قليلة بعد 10 أعوام من العمل فى لوس أنجلوس: "عدت بهذه الفكرة وهذه الشعارات: لا للواسطة, حقوق الفرد, المساواة الكاملة التى تذوب فيها أى فروق اجتماعية الخ... والنتيجة: سـُرقت ونُصب علىّ ولم أحصل على أى خدمة مهما دفعت فى مقابلها من أموال. بداية من العاملة بالمنزل حتى كبار الموظفين فى المصالح الحكومية استضعفونى فاستغلونى... احترام وأدب يعنى للأغلبية "طيبة وعبط".

لماذا تختفى الخادمة المصرية بالأيام وتلتزم الإندونسية بالعمل؟ لماذا تسرقنى المصرية فى حين أترك مفتاح الشقة للسائق السودانى بكل ثقة؟ عدم التزام وتكاسل أم مادية قاتلة ودونية أخلاقية فرضتها ظروف المعيشة القاسية؟

بدا لى أن كل هذه التحليلات بدأت تداعب ذهن الفتاة وفجأه قالت وكأنها تذكرت فارقاً جديداً: "طيب لماذا لا أستطيع هنا الخروج مع أى شخص ينتمى لطبقة مختلفة وكنت من أسبوع واحد فى مطعم فى كندا مع صديقة لى والدها سائق تاكسى نأكل ونضحك ونتحدث ولاتشعر أى منا بحرج؟" عدة ثوان من الصمت. لم يجد أى من الخمسة عشر شخصا جوابا سريعا، حتى قال الصديق الليبرالى مبتسماً بتفاخر: "هذا ما يحدث عندنا فى الحزب.

لا فارق بين المهندس أو المدير، ابن العائلة العريقة والغفير الفقير... الكل متساو فى النقاش والعمل السياسى والاجتماعى"، ولكنه تذكر وذكّرنا أن هذا لا يحدث إلا على نطاق حزبه، أى بين الآلاف الذين شاء القدر أن يتمتعوا بحد أدنى من الأفكار الليبرالية. فأين باقى الـ 80 مليونا؟

ولكن أخيراً بعض ملامح التفاؤل،" إذا تمكنّا من تطبيق ذلك بالفعل على نطاق ضيق، فهذا يعنى أن هناك أملا، علينا فقط الاستمرار"، يعنى ابدأ بنفسك! لا أعلم إن كانت صديقتنا المثالية العقلانية أو المتحررة قد اقتنعت، ولكن على أى حال يا صديقتى إن كانت هذه التحليلات صائبة جزئياً أو كلياً فإنها تعود إلى واقع، بنت سائق التاكسى الكندى ألاتذهب معك إلى نفس المدرسة؟ نفس الفصل؟ نفس المنهج؟ ونفس المعلم؟ تتخرجان فى كندا بنفس المستوى, فتحصلان على نفس الوظيفة, بنفس الراتب ونفس التدريب العملى فتتنزهان فى نفس الأماكن وتصادقان نفس البشر، والأهم من كل ذلك لديكما نفس الفكر.

طبقَّى هذه المقارنة على فتاتين فى مصر.. لن نُصدم.. نعلم النتيجة مسبقاً. ألا تعالج بنت السائق فى كندا بنفس المستشفى التى تعالجين فيها؟ نفس الطبيب؟ نفس الدواء؟ نفس الاهتمام؟ لماذا إذن لا تشعران بمساواة وتساوى، لا أتحدث عن المادة ولكن عن الفكر والشعور بالآدمية وسد الاحتياجات الأساسية، وبعد ذلك كلُ يجتهد ليتميز.

حتى المعلومة والترفيه، أليست الفرصة واحدة لك ولصديقتك فى الغرب فى السماوات المفتوحة؟ يمين، يسار، وسط، فى النهاية, صحافة تليفزيونية مهنية على درجات متفاوتة من الانحياز والاعتدال وكلٌ يختار على هواه؟ سيشاهد الكندى ما يريد وفقاً لما يختاره وما ينفقه، أما هنا فى أم الدنيا... عملياً لك أنت السماوات المفتوحة لأنك تتحدثين الإنجليزية بطلاقة وربما الفرنسية وغيرها، فإن لم تجدى ما تريدينه هنا ربما تجدينه فى سماوات الغرب. أما من لم تتلق نفس مستوى التعليم فلها فقط قانون تنظيم البث. وعفوا متزعليش منى.. انت, حتى الآن, مش مهمة لأنك مازلت أقلية!








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة