لابد أن نسجل ظاهرة اتسم بها هذا العصر، وهو أن هناك عدداً من الأقلام المؤثرة فى قرائها قد حيل بينهم، وبين هؤلاء القراء بشكل رسمى سواء كان ذلك بدافع شخصى من رئيس التحرير فى صحيفة كبرى كالأهرام أو بإيعاز رسمى. وتنظر السلطة غالباً إلى هذه الأقلام، على أنها أقلام صادقة لكنها ضارة، لأنها تنبه الخامل وتوقظ النائم وتنشر الثقافة فى عقول يراد لها أن تعيش على البلادة والرتابة وترتد إلى الحالة التى كانت النظم تنظر فيها إلى شعوبها، على أنهم أطفال لا يجوز لهم أن يطلعوا على غير ما تسمح به رقابة الدولة، وهى لا تسمح بالطبع بأن ترى صورتها على حقيقتها ويزعجها جداً أن تواجه بها. تنظر السلطة فى هذا السياق إلى هذه الأقلام، على أنها تعزف اللحن المضاد وتضعف حصانة العقول، التى بالغ إعلام هذه النظم فى إغلاقها وتسطيحها بعد أن حارب قيم الجدية والعلم والثقافة الحقة، وظن أن تعريف المثقف هو من تدعوه وزارة الثقافة أو أجهزتها إلى أية مناسبة وإذا حسن ظنها فيه منحته الجوائر وكلما ارتفع قدر الجائزة عندهم وارتفع رقمها المالى كلما أبعدت حاملها عن دائرة الثقافة الحقيقية، لأنها شهادة عليه ووصمة عار فى جبينه، وإبلاغ عن أنه ضرب بسهم وافر فى محاربة الثقافة والمثقفين. ترتب على ذلك أن أصبحت قيمة الثقافة عندنا خارج دائرة الأولويات، وأصبحت صورة المثقف أنه أبله يضيع وقته ونقوده فى خدمة عقل لا تطلب بضاعته، فأسندت المناصب إلى من يثبت أنه يحارب الثقافة الحقيقية ويشيع الجهل والتخلف فانحطت الثقافة العامة فى مصر وازدهرت ثقافة أخرى فرسانها أسماء تزج بنفسها فى مجال الصحافة والكتابة وتوهم القارئ، بأنها أسماء لامعة بحكم المنصب الصحفى الذى تتولاه وتواتر ظهورها فى حفلات التكريم وهى أعراس فى مآثم الصحافة والثقافة. ولا أدرى لماذا يذكرنى هذا المشهد دائماً بسطور فى ميثاقنا الوطنى الصادر عام 1962 التى أكدت أن آلافا من شباب مصر قرأوا تاريخها الوطنى على غير حقيقته، فصور لهم الأبطال فى تاريخها تائهين وراء سحب من الشك والغموض، بينما وضعت هالات التقديس والإكبار من حول الذين خانوا كفاحها.
تنظر السلطة إلى الكاتب المثقف على أن تواصله مع قرائه ميزة له هو، وأن منعه من الكتابة إن كان كاتباً رسمياً فى صحيفة، يهدف إلى ضمه إلى كتبة النظام. وإذا كان هذا الكاتب المثقف كاتباً مستقلاً حراً لا يتقاضى عن مقالاته أجراً من تلك الصحيفة، فإن منع نشر مقالاته عقوبة له حتى يستقيم ويعود عن ضلاله. والحق أن اتساع نطاق منع النشر فى صحيفة كالأهرام لمثل هذا الصنف من الكتاب الأحرار سواء بقرار من رئيس التحرير أو برغبة من السلطة هو نقطة سوداء فى تاريخ حرية الصحافة مصر بعد أن أطلقت حرية بعض الصحفيين ما داموا يسبحون بحمد من عينهم، لأن التسبيح دائماً تعبير عن العرفان وطلب للقربى وتأكيد للوفاء، وهو مقبول من العبد لخالقه إعلانا عن عبوديته، ولكنه من عبد إلى سيد بديل عن كفاءة هذا العبد، ولذلك ليس صدفة أن تصبح القاعدة القائلة بأن الكاتب الكفء الصادق المحترف يحتاج إلى الحرية وتخنقه العبودية، ولكن الكاتب الموظف لا قيمة له خارج الدائرة التى تم توظيفه فيها والمهمة التى كلف بها.
إن الخاسر هو قيمة الحرية والقارئ الجاد والبيئة الصحفية التى عاصرت مرحلة الإنحطاط فى هذا العصر، أما الكاتب الجاد فمن حسن حظه أن حريته فى التعبير ليست مقيدة بصحيفة الأهرام وإنما تمتد رسالته إلى كل ساحات النشر والإعلام، ولا يفيد المنع فى مثل هذه الصحيفة، وندعو الله أن يزيح هذه السحابة الكئيبة.
هذا بلاغ لمؤرخى الصحافة وأساتذة الصحافة فى بلادنا، فلا عجب كما قال المتنبى، إن تنقلب الأشياء وأن تظهر الاضداد بقوله الحزين عن مصر العظيمة حين تولاها الإخشيد: صار الخصى إمام المتقين بها، فالعبد مستعبد والعبد معبود.
لقد انتشر الإخشيد فى مواقع كثيرة، لكن جسد مصر العظيم وروحها الوثابة التى استعلت على كل السنين والظلمات، لقادرة إن شاء الله على أن تعود إلى نقائها، فتزدهر فيها حرية الكلمة ويسعد فيها الأهرام وغيره بتحرره من السنوات العجاف.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة