ضربت المذيعة حين انتصف ليل القاهرة كفا بكف، شدت شعر رأسها، أشارت بسبابة يدها اليمنى، ثم بكفها كاملا، بطول ذراعيها، كادت أن تقف وتجرى وتهرول وتصرخ، لولا إدراكها فى آخر لحظة أنها تجلس على "الهواء مباشرة" مع ضيوفها الذين كانوا يتابعون حادث حريق مبنى مجلس الشورى مساء الثلاثاء الماضى.
انقسمت شاشة القناة التى تتابع الحدث إلى نصفين ليس بفعل الحريق، ولكن لرغبة المخرج فى التأكيد على أنه يشعر بنفس ما تشعر به المذيعة وضيوفها وفريق عمل البرنامج من وراء الكاميرا والجمهور من أمام الشاشة، النصف الأيمن وفيه المذيعة وضيوفها وهم فى حالة تعجب واستنكار، والنصف الأيسر لأحد كبار المسئولين فى الحكومة وهو يقف مع مراسل القناة أمام المبنى المحترق، ويؤكد أن كل شئ على ما يرام، وأن الحريق أصبح تحت السيطرة رغم مرور أكثر من سبع ساعات على اندلاعه، وفشل كل القوات الأرضية والبرمائية والجوية والبحرية من محافظات القاهرة والجيزة وحلوان فى إخماده.
علا صوت المذيعة مع اختفاء النصف الأيمن من الكادر "يا أحمد فيه نار لسة والعة، وبتزيد وإحنا شايفينها" وكانت النيران تخرج بقوة من شبابيك المجلس من على يسار المسئول الذى تعامل مع "الحريق" بمنطق التقارير والبيانات المليئة بالأرقام المغلوطة، والتى تؤكد أن كل شئ فى مصر على ما يرام، ونسى أو تناسى أن الصورة للحريق من خلفه وعن يساره ويمينه تنطق بحقائق لا يمكن إنكارها أو تجميلها، تختلف كثيرا عما يصر على توصيله إلى الناس، ولم يكلف خاطره مجرد النظر لما يشير إليه المراسل، وكان كل همه توضيح أنه لو تم إنقاذ الطابق الأرضى فسيكون ذلك شيئا طيبا، وأن الدورة البرلمانية القادمة ستبدأ فى موعدها طبقا للدستور قبل الخميس الثانى من شهر نوفمبر.
كظمت غيظى وانتقلت إلى قناة أخرى فوجدت مسئولا آخر يؤكد على "الهواء مباشرة" أن النيران لم تمس مجلس الشعب، أو البهو الفرعونى والمتحف والقاعات الرئيسية، وجاءت الحقيقة صادمة بعد ذلك بدقائق من خلال التأكيد على احتراق المركز الصحفى لمجلسى الشعب والشورى بالكامل، والذى يضم قاعتين لموظفى الصحافة والمحررين البرلمانيين والذى تم تجديده منذ أسابيع قليلة، إلى جانب مكتب شئون الأعضاء الذى يضم استمارات العضوية وبيانات النواب والمضابط، وأيضاً خزينة مجلس الشعب التى تصرف مكافآت الأعضاء وغيرها.
غيرت المحطة بسرعة لأجد مسئولاً ثالثاً يصور بكاميرا محموله الخاص وقائع الحريق بالصوت والصورة، وبسرعة البرق استدار لمراسل فضائية ثالثة وهو يعدل من رابطة عنقه على "الهواء مباشرة" ويبدو أنه كان حريصاً على الظهور وهو فى كامل أناقته، رغم المأساة التى كان يعلم بها قبل أن ينتقل إلى موقع الحادث، ويتردد أن ارتداءه للطقم الذى ذهب به إلى مقر المجلس استغرق ما يقرب من ساعة بسبب إصراره ليس على توفيق أوضاعه أو التقليل من كوارثه، ولكن على توفيق ألوان ملابسه التى يرتديها.
مسئولون آخرون لم يظهروا فى الكادر أعطوا أوامرهم إلى الجنود ورجال المطافى لخوض غمار المعركة والتعامل مع الحريق بقلوب وصدور من حديد، فاحترق منهم من احترق وكسر من كسر واختنق من اختنق ومات من مات، وأعطى الكبار التمام بأن كله تمام، وأن المبنى المسجل كأثر إسلامى ويعد تحفة معمارية متميزة، يمكن أن يعاد تجديده وترميمه فى زمن قياسى ليستقبل قرارات وقوانين جديدة من أعضاء مجلسى الشعب والشورى الذين لا يزالون فى المصايف، وتمنى المطحونون من أبناء مصر أن يكونوا فى قلب "الحريق" وعلى "النار مباشرة".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة