دائماً ما ينظر للعسكر عندما ينقلبون ثم يحكمون، بأنهم الأيدى الحديدية التى لا يصلح معها سوى الاستسلام والانقياد المطلق بلا مراجعة أو مواءمة أو صفقات ... ولكن اليوم باكستان تكسر كل القواعد والشواهد، بل تدمر ناموسا قديما ظلت الشعوب تعشق تقديسه، فقد سقط الرجل العسكرى القوى فى باكستان برويز مشرف بعد صولات وجولات مع شعبه ومع المعارضة ومع العالم أيضا، الذى تحفظ كثيرا على طريقته فى قيادة بلاده.
ولد مشرف عام 1943 فى مدينة نيودلهى التى أصبحت عاصمة للهند بعد انفصال باكستان، ثم هاجر مع أسرته إلى باكستان، حيث تلقى تعليمه الأول فى كراتشى، وفى عام 1964 التحق بالجيش وتدرج فى مناصبه المختلفة، حتى تقلد منصب قائد الجيش عام 1998 عقب استقالة الجنرال جهانغير كرامت من المنصب.
وخاض مشرف حربين ضد الهند، أولاهما عام 1965 فى ولاية البنجاب وتلقى نيشان البسالة، فيما خاض الحرب الثانية عام 1971، وكان قائدا للجيش الباكستانى أثناء القتال العنيف بين الهند وباكستان فى عام 1999 فى مرتفعات كارغيل، التى انتهت بانسحاب المقاتلين الكشميريين منها بضغط من رئيس الوزراء نواز شريف. واتهمت الهند باكستان فى ذلك الوقت باختراق الخط الفاصل، فى حين نفت باكستان الاتهام.
وقاد مشرف انقلابا على نواز شريف فى أكتوبر 1999 على خلفية اتهام نواز له بمحاولة إسقاط الطائرة التى كانت تقله أثناء قدومه من سريلانكا. ثم عين نفسه رئيسا لباكستان بعد استفتاء شعبى فى السادس والعشرين من يونيو 2001، فى ظل اتهام المعارضة السياسية له بفقدان الشرعية لتمثيل باكستان فى لقاء القمة مع الهند.
وأبرز ما سيحفظه التاريخ من سيرة برويز مشرف موافقته على طلب أمريكا بالسماح لها باستخدام الأراضى الباكستانية لضرب حركة طالبان التى رفضت تسليم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.
وأعلنت حالة الطوارئ فى البلاد 2 نوفمبر 2007 بعد الانتخابات الرئاسية، وقبل يومين من قرار المحكمة الدستورية العليا فى البلاد للبت فى شرعية الانتخابات. وبعد تدهور الوضع الأمنى بسبب قتال الجيش مع الإسلاميين فى منطقة القبائل المحاذية لأفغانستان شرقى البلاد، تخلى الرئيس الباكستانى مشرف عن قيادة الجيش يوم الأربعاء 28 نوفمبر فى احتفال رسمى سلم خلاله نائبه الجنرال إشفاق برفيز قيادة القوات المسلحة، وذلك قبل يوم واحد من أدائه اليمين الدستورية كرئيس "مدنى منتخب" لفترة ولاية ثالثة فى باكستان، والتى لم تستمر طويلا.
وقال مشرف فى الاستقالة، التى أذيعت على التليفزيون الباكستانى، " بعد مراجعة الموقف واستشارة المستشارين القانونيين، والحلفاء السياسيين، قررت الاستقالة معتمدا على نصيحتهم"، مضيفا "اترك مستقبلى فى يد الشعب".
وقال مشرف إنه سيقدم استقالته لرئيس البرلمان فى وقت لاحق من يوم الاثنين، وهى إشارة لنجاح المعارضة التى قضت على آخر القادة العسكر وأشدهم قبضة حديدية فى تاريخ باكستان.
وأفادت تقارير أن الأيام الماضية شهدت مفاوضات بينه وبين الائتلاف الحاكم تسمح له بالاستقالة دون مواجهة تهم قانونية، إلا أنه لم يتضح على الفور الخطوات المقبلة التى تنتظر الرئيس.
ويعتبر مشرف، أحد حلفاء واشنطن المقربين خاصة بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر، غير أن أمريكا تخلت عن هذا الحليف، حيث قالت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس إن الرئيس مشرف كان حليفا جيدا لبلادها، لكن واشنطن اختلفت معه حين قرر إعلان حالة الطوارئ.
كما رفضت رايس الإفصاح عن موقف بلادها إذا تقدم مشرف بطلب اللجوء السياسى إلى الولايات المتحدة فى حال عزله، وتشير تقارير إلى احتمالات توجهه إلى المملكة العربية السعودية أو تركيا بعد الاستقالة.
ويذكر أن شعبية برويز مشرف تدنت العام الماضى بسبب محاولاته إقالة رئيس القضاة، وإثر موجة التفجيرات التى شنتها طالبان وقتلت أكثر من 1000 شخص، وكذلك الحادث المأسوى باغتيال رئيسة الوزراء السابقة وزعمية المعارضة بنيظير بوتو.
وربما أيقن مشرف أن حسم المواجهة بينه وبين الائتلاف الحاكم لن يحتاج تصويتا فى البرلمان، لأن خسارته مضمونة إذا تمت إجراءات التصويت بالثقة.
وهنا يبرز السؤال الصعب: كيف سيكون شكل باكستان بدون القيادات العسكرية؟ خاصة أنهم أقوى مراكز صنع القرار فى البلاد التى تملك ترسانة أسلحة نووية وتقليدية كبيرة؟
ثم كيف ستتعامل واشنطن مع الموقف وهى تعلم أن باكستان هى امتداد أمنى استراتيجى لها؟ وهل ستأتى بشرطى بديل لحماية مصالحها فى المنطقة واضعا يده على زناد بندقيته الموجهة نحو طالبان والقاعدة؟
الجنرال العسكرى المستقيل برويز مشرف
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة