محمود درويش..

أَنْتَ الدَّليلُ.. ولن يَدُلَّكَ أَحَدٌ علينا

الجمعة، 15 أغسطس 2008 12:03 ص
أَنْتَ الدَّليلُ.. ولن يَدُلَّكَ أَحَدٌ علينا أحمد الشهاوى برفقة محمود درويش
أحمد الشّهاوى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مِتَّ غريبًا فى سريرٍ لَيْسَ لَكَ
فَمَنْ إذن سَينامُ فى "سرير الغريبة" غيركَ
أَنْتَ الغريبُ فى بلادٍ غريبةٍ، ذَهَبْتَ إليها بَوَسَاطةٍ، كى تستقبلَكَ "مريضًا" لا شاعرًا.
كان يمكنُ أَنْ تَظَلَّ فى "باريس" صحبة صديقنا المشترك صبحى حديدى، كاتمُ أسراركَ، وناقدُكَ، والأقربُ إليكَ روحًا وفكرًا.
ربَّما كُنْتَ ستبقى ولو لأيام أو أسابيع تُرتِّبُ فيها أعمالَكَ التى حدَّثْتنى عنها ذَاتَ يومٍ فى الإسكندرية، هذه الأعمالُ الشعريةُ المنجزةُ التى لم تنشرها فى حياتِكَ، أذكر أنَّكَ قلتَ لى إنها ثلاثةُ أعمالٍ، أردتَ أن تشذِّبَها وتهذِّبها وتحذفَ منها وتصفِّيها من "الأثقالِ" والشَّوائبِ.
أينها الآنَ، أهى فى عمَّان أم رام الله. أيمتلكُ صبحى حديدى نسخةً منها.
أم أنَّك كُنْتَ حريصًا كعادتكَ ألاَّ تُطْلعَ أحدًا عليها.
الآن زادت خُسَاراتى فى الحياة. كُنْتُ كلَّما تَأَزَّمَتْ رُوحى عُدْتُ إليكَ.
لن تستطيعَ "البروة" أن تأوى جَسَدَكَ لأنَّها – كما تعلم – زالت من على خريطةِ فلسطينكَ، لكنَّكَ ستكونُ فى مكانٍ ما قريبٍ منها.
أُمُّك (92 سنة) تنتظركَ، وأخوك أحمد، والأقرباءُ والأصدقاءُ، وحتَّى الأعداء من الأهلِ الذين حَسَدُوكَ غيرةً من شِعْرِكَ، وكدَّروا حياتَكَ فى السنواتِ الأخيرةِ. كُنْتَ تضمرُ غيظكَ وحُزنَكَ وانفعالكَ وتصمتُ. لكنْ عندما فاض كيلُ الحَسَدِ أو قُلْ السِّبَابَ، بدأتَ تعلنُ دونَ أَنْ تُسمِّى أَحَدَهم، كُنتَ أحيانًا تشيرُ أو ترمُزُ حتَّى لا تكشفَهُم وهم يواصلون دونَ خجلٍ. ماذا سيقولون اليومَ، سأقولُ لَكَ يومًا ماذا سيقولونَ ويكتبونَ.
لستَ حِصَانًا وحيدًا متروكًا فى الصحراءِ العربيةِ، لكنَّكَ حاملُ السُّؤالِ "لماذا؟"، وغيره من الأسئلةِ، التى ستكبرُ كنجمةٍ تحملُ اسْمَكَ ليبقى فى سَمَاءِ الشِّعْر إلى جوارِ جَدِّكَ الذى أحببتَ "المتنبى".
إذْ سيبقى شِعْرُكَ عابرًا للأمكنةِ والأزمنةِ، باقيًا، وشاهدًا على روحِكَ، ومهارتِكَ كصائغٍ عظيمٍ لكونِكَ الشِّعرىِ.
سنملأُ "فراغَكَ" بشعرِكَ، فقد تركتَ ما يشغلُنَا، نستعيدُهُ، ونعيدُ تأويلَهُ، لأنَّه منذ "تِلْكَ صورتُها وهذا انتحارُ العَاشِقِ" حَمَّال أَوْجُهٍ.
تركتَ فى كُلِّ مَنْفَى ذكرى، تركتَ قصيدةً. أعرفُ أنَّكَ أنجزتَ ديوانًا عن مدنِكَ – منافيكَ، أَيْنَهُ، أريدُهُ لنا جميعًا، لنعثرَ عليه قبل أَنْ يضيعَ فى الزحام.
أعرفُ أن الموتَ لم يكن ليخيفكَ، لكنكَ كنتَ تريد "قليلاً" من الوقتِ لترتِّبَ بيتَكَ الشعريَّ. لكنَّهُ لا يستأذنُ يا صديقي، يباغتُ ويصرعُ.
الآَنَ ستذهبُ إلى من جالستهم يومًا بمستشفاك فى باريس: المتنبى، رينيه شار، المعرِّى.
محمود، أَنْتَ غيَّرتَ إيقاعَكَ، فَاسْتَحْقَقْتَ أن نقرأَ قَلْبَكَ الباقى ونحملَهُ كطوقِ حمامةٍ.
إنَّكَ لَسْتَ صَفْحَةً تُطوى – بموتِكَ – فى كتابِ الشِّعْر..
ولستَ طابعَ بريدٍ تُصْدِرُهُ وزارةٌ فلسطينيةٌ قَبْلَ مَوْتِكَ بأيامٍ.
أَنْتَ قِطَارُنَا، اسْتَقْبِلْنَا ولا تودِّعْ أَحَدًا.
لَكَ أرصفتُكَ ومقاهيكَ وموسيقاكَ ولغتُكَ وكلامُكَ، وأرضُكَ التى ترثُ لغتَكَ الصافيةَ التى جَرّدْتَهَا حتَّى استطاعتْ ذَبْحَكَ وَنَالَتْ مِنْ قَلْبِكَ.
تَركْتَ قَافِيةً لَنَا، فانتظرْنَا.
أَنْتَ الدَّليلُ، ولن يدلَّكَ أَحَدٌ علينا.
هَزَمْتَ المَوْتَ، لكنَّ الهزيمةَ لِمْ تَكُنْ بالضربةِ القاضيةِ، كُنْتَ مُصَارعًا فَذًّا لكنَّه غَافَلَكَ، وَصَرْعَتُه بالنقاطِ.
و"النقاط" كان ينبغى أن تشكِّل جُمْلَةَ النهاية "المفيدة".
النقاطُ لم تمنحك فرصةَ أَنْ تتدبَّرَ أَمْرَكَ. بِأَنْ تختارَ نوعَ الزهور وألوانَها، مودِّعيكَ، المكانَ الذى سَتُدفَن فيهِ، أن تكتبَ وصيتَكَ، أن تأتى إلى الإسكندرية، أن تذهبَ إلى الرباط لتتسلَّم جائزةَ "الأركانةِ الدوليةِ". أَنْ وَأَنْ وأن...
استدرجْتَ المعْنَى، لترحلَ
تاركًا أَثَرَ فَراشتِكَ التى طارت أمام عينيك.
اقتبستَ الظِّلالَ مِنْ ظِلاَلِكَ، أَنْتَ المُتَيَّمُ بالِّلعبِ مَعَ الشِّعْرِ، بالانجذابِ إلى البَحْرِ، والنَّوم مع الموسيقى.
"وَرْدٌ أَكْثَر" لَكَ اليوم وكُلّ يومٍ.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة