الإسكندرية أنشودة الفقراء، يبدأون العزف على أوتارها منذ الساعات الأولى لليوم فى مواقف الإسكندرية بالمحافظات. وفى القاهرة الكبرى ستجد نفسك جزءاً من المشهد الذى تبدأ تفاصيله حين تطأ قدماك أرض موقف عبود، فالكل يحمل تفاصيله معه ويهرول لمغادرة القاهرة بضجيجها ووجوهها التى أنهكها الجرى وراء لقمة العيش ليختلس من الزمن يوما أو يومين أو حتى أسبوع، يستعيد بعده حياته بكل مافيها من مفردات يومية مملة.
فى موقف عبود ستدرك معنى الموسم ولعنة الفقر، حين تجد تعريفة السفر للإسكندرية ترتفع من15 جنيها إلى 25 جنيها، وستوافق مرغما. قد تكسر ملل السفر فى الزراعى بالنوم أو الأكل، لكن فى كل الأحوال سيسبقك عقلك لتفاصيل يحكمها ما تحمله حافظة نقودك فى التمتع بالإجازة، أو يأخذك الطريق الصحراوى لحكايات وأحلام القرى السياحية المنتشرة بطول الطريق إلى الإسكندرية، وتلعن "سلسفيل جدودك" أنك يدوب واخد الجمعية والمرتب وهتكمل بقية آخر الشهر" اورديحى"، وتدير وجهك ليأخذك تيه الصحراء لحلم أكثر براحاً بأن يكون الشاطئ قريباً من شاليهك حتى لاينهكك حمل الشمسية والكراسى حتى الشاطئ.
ستكون بطل المشهد وأنت جالس على الشاطئ تتأمل وجوه المارة، وستأخذك تفاصيلهم من مياه البحر التى تلقى بمخلفاتهم عليك، وتخترق أذنيك أصوات الأطفال مابين سن 7 إلى 15 سنة، وستتعجب من مفرداتهم، ليسوا أطفالاً يلهون أو يلعبون بالرمال... إنما أطفال يحملون على أكتافهم رسائل عجز أهاليهم عن توفير مصاريفهم الدراسية، ودليل فشل حكوماتهم بأن تمنحهم قليلا من الوقت يمرحون فيه، ستدرك من أعينهم المرهقة وإسمرار وجوههم أن المصيف عندهم ليس لعباً أو فسح إنما نقطة بداية لتراكم هموم المصيفين بحجم بحر الإسكندرية، وبطول شواطئه، ستخبرك حبات الرمل أنها أنهكت من مرورهم عليها ذهابا وعودة دون كلل أو ملل.
سيأخذك فضولك للتقرب منهم والتلصص على همسهم وهم يفترشون الرمل بجوارك، يستظلون بشمسيتك، وهم يتساءلون عن أشياء إن تبدو لك تسوءك، وهم يتبادلون رصد كم حتة باعوها، وهل سيفى المبيع بمكسب اليوم، فمن يشغلهم يعطى لهم البضاعة بسعر ويوميتهم بتكون المكسب، فهم يأخذون مثلا بدلة الطفل بأربعة جنيهات وهو الثمن الذى يسلمه للتاجر أما مكسبه فهو له .. سيهفو قلبك حين تسمعهم يقسمون المكسب بين أكلهم ومبيتهم وأجرة سفرهم إلى بلدتهم التى غالبا ما تكون إحدى قرى صعيد مصر .. وستدرك أنهم بالكاد يدخرون مصاريف دراستهم، ويمكن ياخدو معاهم حاجه لأسرتهم، فهم فى الإسكندرية بلد البحر والرزق.
ستلمح فى عيونهم نظرة التمنى للجلوس واللعب فى مياه البحر، التى لم تداعب أقدامهم وإنما تحنو عليهم وترطب حرارة رمال البحر القاسية، فيفترشون رمل البحر وينامون ويتغطون بالشمس وطيور البحر تغازلهم وتلاحقهم بطول الشاطئ، وتعلو بأحلامهم حتى تلاحقهم عاما بعد الآخر ليصبحوا شبابا ويرتقون مرتبة أخرى غير " الباعة السريحة" ليكونوا بيدقوا الشماسى أو يبيعوا شاى وهم ليسوا أكثر حظا مما سبق.
ربما تطرح الوجوه المختلفة حولك كثيرا من الأسئلة بين منتقبات ونساء بسيطات وفتيات تحلمن بفارس أحلام الشاطئ، فيبدعن فى إظهار مفاتنهن التى خبأتها كثير من العادات والقناعات، لتختلط الوجوه والأسئلة والتفاصيل المتشابهة والمتنافرة، ويظل المشهد دائما أكبر من عينيك.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة