محمد بركة يكتب:مثقفون للبيع وأشياء أخرى(2من 3)

الأحد، 10 أغسطس 2008 02:46 م
محمد بركة يكتب:مثقفون للبيع وأشياء أخرى(2من 3) محمد بركة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
طلب منى رئيس التحرير ذات يوم، إجراء حوار مع الراحل د.سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب آنذاك، كان رئيس التحرير صريحاً معى حين قال إنه يريد الحوار بهدف تطييب خاطر الدكتور سمير، الذى أزعجه النقد الشديد الذى تعرض له على صفحات المطبوعة التى كانت أعمل بها فى هذا الوقت.

ووجدتنى فى ورطة!
المطلوب حوار "مجاملة"، وشخصية مثل سمير سرحان جديرة بحوار "اشتباك"، ثم كيف أحافظ على مصداقيتى، وأنا أحاور شخصاً مثيراً للجدل مثله، لكن بالفعل "عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" قلت للدكتور سمير: أنت تعرف أننا فى المجلة لا نتربص بك ونحرص عليك، فما رأيك لو فتحنا كل الملفات الحساسة وطرحنا كل التساؤلات والأقاويل فى هذا الحوار ونوضحها من خلال منبر يحتفى بك، ألسنا بهذه الطريقة سنقطع الطريق على الصحف الصفراء التى تتربص بك!

الرجل ـــ رحمة الله ـــ لم يقتنع فقط، بل تهلل وجهه وتحمس للغاية، ولم أكن أصدق نفسى وأنا أطرح عليه كل التساؤلات التى لم تخرج أبداً من دائرة جلسات النميمة على المقاهى، مثل صدور أعمال كاملة لأديبات عربيات لم يسمع بهن أحد وكل مؤهلاتهن الجمال والأنوثة، ثم لماذا لا يستيقظ الناقد القديم داخل الدكتور سمير، إلا إذا كان الأمر يتعلق بأعمال أصدرها أثرياء فى الخليج! مثل هذه التساؤلات والأقاويل والشائعات واجهت بها ـــ وبالحرف الواحد ـــ أحد أشهر رموز الحركة الثقافية، ولا أنسى منظر الصديقة الشاعرة سهير المصادفة حين دخلت علينا بحكم موقعها الوظيفى فى الهيئة، وفوجئت بطبيعة الأسئلة وعلى الفور عبرت عن استنكارها، فإذا بالدكتور سمير يقول لها: لا تقلقى .. الموضوع ودى ومحمد تبعنا!

الجملة الأخيرة شديدة الأهمية فى اعتقادى، نظراً لأنها تعكس طريقة محددة فى التعامل مع وجهة النظر المختلفة، وكثيراً ما اصطدمت بها، ليس فقط أثناء تجربتى الصحفية كمحرر ثقافى، لكن أيضاً كأديب من الجيل الجديد صدر له مجموعتان قصصيتان ورواية، وهذه الطريقة تقوم على المبدأ الشهير الذى أرساه الأخ جورج بوش فى حربه إياها على الإرهاب.

من ليس معنا فهو علينا
المهندس إبراهيم المعلم ـــ رئيس اتحاد الناشرين العرب ـــ أحترمه للغاية على المستوى العام كناشر ناجح، محترف، أرسى تقاليد شديدة الاحترام فى عالم الكتاب، وعلى المستوى الشخصى أكن له مودة حقيقية، لكنى فوجئت به ذات مرة يسألنى عن زميل صحفى هل هو شيوعى؟ والزميل أعرفه جدياً، وأعرف أنه ليس له لا فى "طور" الشيوعية ولا فى "طحين" الاشتراكية، لكن السبب الذى دعا المهندس إبراهيم إلى طرح هذا التساؤل أو ذلك الافتراض، هو أن الزميل تعرض بالنقد لمشروع ثقافى، كان المهندس إبراهيم شديد الحماس له!

الشاعر الجميل عمنا أحمد فؤاد نجم، سعدت مبكراً بالاقتراب منه إنسانياً وفى صالون الفاجومى فوق سطوح مساكن الزلزال بالمقطم، حيث عليك أن تتلو الشهادتين قبل الصعود على سلم خشبى متهالك، كانت لنا ــ حقاً ــ أيام وليال. وحدث أن انفجرت ما عرفت بــأزمة "نجم ــ ساويرس"، حين احتفل رجل الأعمال المعروف نجيب ساويرس بعيد ميلاد الفاجومى، وشن كثيرون أبرزهم الأستاذ عادل حمودة هجوماً على نجم، قالوا فيه إنه رفع الراية البيضاء وتنازل عن تاريخه النضالى وخان اليسار والاشتراكية وعقد صلحاً مع اليمين والبيزنس! والمنطق يقول إن ناقل الكفر ليس بكافر، وما فعلته أنا لم يكن سوى أننى أجريت تحقيقاً صحفياً حول هذه المعركة، تحريت فيه الموضوعية، حيث كان هناك من يهاجمون نجم، وهناك من يدافعون عنه بشراسة، بل كان من يدافعون أسماء ذات وزن ثقيل من نوعية الأستاذ صلاح عيسى والأستاذة صافى ناز كاظم والناقد الأستاذ إبراهيم فتحى، ولكن من الواضح أن هذا لم يأت على هوى أستاذنا وعمنا، فاتهمنى صراحة ـــ وبالاسم ـــ على شاشة قناة المستقبل وفى البرنامج الشهير "خليك بالبيت" لزاهى حواس، بأننى بوق لعادل حمودة وأداة فى التشهير به، ثم عاد فى كتابه "أنا بقى وعادل حمودة" وقال ــ دون ذكر أسماء هذه المرة ــ بأن حمودة جند أنصاف المواهب والعملاء للهجوم عليه، وأورد فى كتابه نص الموضوع الذى نشرته.

فى عام 97 أو 98 ــ لا أذكر التاريخ بالضبط ــ كنت أحرر باباً لعروض الكتب فى مجلة "كل الناس" وذات يوم أخبرنى أحد الزملاء بأن الأستاذ يوسف القعيد اتصل ليشكرنى على عرض موجز كتبته حول روايته "أطلال النهار"، ولما لم يجدنى ترك لى تليفوناته بالتفصيل لأتصل به، وحين اتصلت دعانى لزيارته فى مكتبه بدار الهلال. كنت سعيداً بهذا اللقاء، فللمرة الأولى تتجاوز علاقتى بالمثقفين القراءة من على بعد، وتنتقل إلى خانة تجربة التعامل المباشر.

كان اللقاء سريعاً خاطفاً
منذ اللحظة الأولى دخل الأستاذ يوسف فى الموضوع مباشرة، سألنى إن كنت قرأت بقية أعماله فأشرت إلى "الحداد" و"الحرب فى بر مصر"، فأعطانى مجموعة كبيرة من رواياته الأخرى، كان من الواضح أنه جهزها مسبقاً لهذا الغرض ــ وأذكر أنها كانت طبعات قديمة ملفوفة بخيط دوبارة وكان من الطبيعى أن يسألنى أديب الستينيات الشهير ــ وأنا على الباب تقريباً ــ عن خلفية اهتمامى بالأدب ومبعث ميولى النقدية، فقلت على استحياء ــ كعادة الأدباء الجدد ــ إننى أكتب القصة القصيرة وأجهز لإصدار مجموعتى القصصية الأولى، وهنا حملت ملامح وجه الأستاذ يوسف إحساساً غامضاً بعدم الارتياح وتمنى لى على الفور حظاً طيباً.

كنت مشغولاً ــ بطبيعة الحال ــ منذ أيام الجامعة بالقراءة فى موضوع تواصل الأجيال وذكريات الأدباء حول بداياتهم الأولى، ووجدت أن كثيرين ــ لاسيما من جيل الستينيات ــ خرجوا من عباءة الرائع العظيم يحيى حقى، بينما يدين آخرون بالفضل المطلق لعبد الفتاح الجمل فى اكتشافهم وتقديمهم من خلال الملحق الأدبى لجريدة "المساء" فماذا فعل الستينيون مع الجيل الجديد، خصوصاً وأن بعضهم أصبح يمتهن مواقع مهمة هنا وهناك؟

لقد كان الأستاذ يوسف ــ فى تلك الواقعة ــ مشغولاً بشىء واحد فقط: هو اكتشاف قلم صحفى جديد، وأعطى صاحبه بقية أعماله مشدداً على أهمية قراءتها جميعاً، بحيث إنه عندما يكتب عن روايته المقبلة، يكون أكثر دراية بعالم القعيد الفنى، لكن ماذا عن الوجه الآخر الأدبى ــ والحقيقى ــ لهذا الصحفى، هل هو موهوب حقاً، ما هى شكل كتاباته، هل هى جيدة بحيث تستحق الحماس والتشجيع وما هى خططه فى النشر؟ إنها تساؤلات طرحها جيل الرواد على شاكلة حقى والجمل مع الأجيال الجديدة حين كانوا يتلمسون خطواتهم الأولى فى القاهرة وفى حاجة ملحة لأن يلتفت إليهم أحد، أى أحد، لكن الأستاذ يوسف حين دار الزمن دورته، وأصبح هو فى موقع من يتلقى صوتاً أدبياً جديداً، لم يشغل باله إطلاقاً بهذه المسالة، وانصب اهتمامه على نقطة محددة، هى كيفية "توظيف" هذا الصوت الجديد.

وبكل الصدق مع النفس ومع القارئ، أقول إننى لا أقصد من وراء كلامى هذا أى أدانة لشخص الأستاذ يوسف الكريم، فأنا شديد الحرص على خيط المودة الذى يربطنى به، وتواصلى معه قائم ومتصل، كما قد أكون أسأت فهم الموقف، أو لم أراع وجود ظروف ما جعلته ليس فى أحسن أحواله المزاجية آنذاك لكنى فقط أردت أن أرسم من خلال تجربة شخصية مبكرة ملامح أزمة عاملة فى التواصل بين الأجيال على الساحة الأدبية!

إن 99% من المحررين الثقافيين، هم أدباء شبان يكتبون الشعر والقصة والرواية، واختاروا الصحافة الأدبية باعتبارها الأقرب لميولهم لذا فهم ــ بحكم المهنة ــ يرصدون مفارقات وملاحظات لا تنتهى تتعلق بمشاهير الأدباء الذين تعرفوا عليهم ــ على الورق ــ وهم فى قرى الدلتا والصعيد قبل أن يلتقوهم وجهاً لوجه فى القاهرة.

من الواضح تماماً أن السادة الأدباء لم يعد يشغلهم إطلاقاً معارك من نوعية الدور السياسى للمثقف، أو الدور الاجتماعى للأدب، أو قضايا الفكر والنقد، لم يعد هناك حلم ما بالتغيير أو رؤية للمستقبل، أصبح كل ما يشغلهم هو تذكرة سفر خطفها فلان من فلان، أو مشروع للترجمة أصبح "علان" يمسك بالتوكيل الخاص به بدلاً من "علان"! لم تعد جلسات المقاهى والسهرات تبدأ بالسؤال القديم: ما هى آخر الكتب المهمة التى قرأتها، بل بأسئلة أخرى جديدة على طريقة:
مفيش سفرية يا عم الواحد زهق!
أنا شفتك على قناة كذا، هم بيدفعوا كويس
صاحبك يا سيدى احتكر مجلة كذا الخليجية .. فلوس ودولارات!
الواد يا عم حظة زى المنشار، فى الكتابة والنسوان!

إن" الجوريون والنادى اليونانى والأتيليه والحرية وزهرة البستان"، لم تعد تجمعات شهيرة للمثقفين فى وسط البلد تفرز حركة إبداعية أو مشروعاً أدبياً أو تحالفاً سياسياً ما، بل أكبر منصة لإطلاق الشائعات وسحب النميمة الكثيفة المغلفة بالحقد، والتشكيك فى أى نجاح!

لقد فقد المثقف المصرى ــ والعربى عموماً ــ هذا السحر القديم المدهش المسمى بالجمهور أو القراء، لقد فقد وجود قاعدة حقيقية للتلقى ينشغل بالتواصل معها وأصبح قراء الأدب هم أنفسهم نفس الأشخاص الذين يكتبونه، كما أصبح متعاطو الفكر حلقات ضيقة من عجائز فوق الستين، وبما أن الحال هكذا، فلا مناص من أن يستدير الجميع إلى الداخل، ويصبح الشغل الشاغل لكل منهم النميمة والتشكيك والتثاؤب، وكفى الله المؤمنين شر القتال أو شر الحلم ــ والعياذ بالله ــ بالتغيير!


موضوعات متعلقة..

◄محمد بركة يكتب.. تامر وشوقية ينافسان أبو تريكة
◄الصحافة المصرية ليست فى "فى إيد أمينة"
◄أحمد رزق فى "هيمه" .. الكوميديان التائه!
◄يسرا "فى إيد أمينة" ليست شيطاناً وإنما ملاكاً
◄لعنة داليا البحيرى فى "بنت من الزمن ده"
◄محمد بركة يكتب .. أسمهان تكسب!
◄الدالى ضحية نجاحه
◄وفاء عامر .. دراما غنية من العرى إلى الإبداع
◄محمد بركة يكتب: آسف على الخوف من المغامرة
◄حكاية الفتاة التى تزوجها محمود درويش سراً!
◄محمد بركة يكتب عن أمراض المثقفين (1 من 3)






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة