يمثل السودان مستودعاً حضارياً ضخما، نتيجة تعاقب الحضارات والتقاليد الثقافية، التى شهدها على مدار تاريخه، حيث يضم العديد من الديانات والثقافات والأعراف، أظهرت ما لديه من مكنون ثقافى بعدد من اللغات، التى يتحدث بها أهله، والتى أسهمت فيها كبر مساحة هذا البلد.
ويتمتع السودان بجوار 9 دول، منهم 8 دول أفريقية من الجنوب والشرق والغرب، بالإضافة إلى مصر فى شماله، لذلك فهو يتمتع بالعديد من الثقافات، نظراً لتداخل حدوده مع هذه الدول الأفريقية، والتى ساعدت عليها وجود امتدادات لبعض قبائله فى دول الجوار، فثقافة الجنوب مختلفة عن ثقافة الغرب، عن ثقافة الوسط، عن ثقافة الشمال، عن ثقافة الشرق.
ورغم هذا التنوع الكبير فى الثقافات، لم نر للسودان أى إنتاج ثقافى يُذكر فى العاصمة المصرية القاهرة، والتى تعتبر مركز الإشعاع الثقافى العربى.. فهناك مقولة شهيرة تقول إن من يريد الانتشار عربياً عليه بمصر هوليود الشرق.. وظهر الإنتاج الثقافى فى بعض المشاركات المتواضعة فى مهرجانات الأوبرا الصيفية، حيث يشارك السودان بيوم فى ليالى الأوبرا ببعض فرقه الشعبية، وعدد من مطربيه.
ويلاحظ فى هذه الليلة من كل عام حضور ضعيف جدا للجمهور المصرى، ويقتصر هذا الحضور على السودانيين من الجالية السودانية الموجودة بالقاهرة، فى الوقت الذى يوجد فيه فنانون سودانيون كبار فى كافة المجالات. فالمطربون السودانيون على سبيل المثال قد غزوا أفريقيا بفنهم.. فمن منا فى مصر يعرف كابلى وردى ومحمد الأمين؟
وهناك بعض الأعمال المشتركة بين البلدين، مثل المسلسل التاريخى "أمير الشرق"، والأوبريت الغنائى "مصر المؤمنة"، ولكن هذه الأعمال غلب عليها الطابع التجارى، ولم تكن سوى مشاركة فنانين مصريين فى منتج سودانى ضعيف.
فما سبب هذا.. هل لأن الخرطوم لا يملك إنتاجاً ثقافياً متميزاً؟ أم أن الطابع الأفريقى غلب على الطابع الإسلامى العربى فيه، مما أدى إلى عدم فهمه بالقاهرة؟ للرد على هذه الاستفسارات كان لابد أن نتعرف على ملامح الفن السودانى.. وهل ينتمى إلى العربية أم إلى الأفريقية؟
توجهنا إلى وزير الثقافة السودانى الأسبق والقيادى البارز بالحزب الحاكم فى السودان، د. عبد الباسط عبد الماجد، وسألناه ما معنى أن تكون هناك وزارة للثقافة فى السودان، وليس هناك أى إنتاج ثقافى يليق بهذا التعدد الضخم للثقافات بها؟، وما معنى أن يكون السودان غنيا بكل هذه الثقافات نسبة لموقعه الرابط بين العرب والأفارقة، وبدلاً من أن يكون منتشراً عربياً وأفريقيا، فشل فى ذلك أو على الأقل فى الانتشار عربياً؟
مشكلتنا فى المنشآت الثقافية
أجاب عبد الباسط قائلاً: بالفعل نحن لا نعانى مشكلة ثقافة، ولكن نعانى مشكلة المنشآت الثقافية من مسارح ودور عرض ودور نشر ومطابع، فلم تكن هذه المنشآت فى الفترة الماضية من الأولويات الملحة، لأننا كنا فى حالة حرب أهلية وحصار، فكانت أولوياتنا هى الحفاظ على الحياة أولاً، والآن خطتنا المستقبلية هى أن يكون لدينا منشآت ثقافية تخرج هذا المكنون الثقافى إلى خارج السودان. وبناء على هذه الخطة تم استحداث وزارة الثقافة، التى كانت فى الماضى مصلحة تابعة لوزارة، لتعبر عن اهتمام الدولة فى هذه المرحلة، وأيضاً الاهتمام العالمى بحوار الحضارات والثقافات، السودان يريد أن يكون له خطاب ثقافى نساهم به فى هذا الحوار، ونساهم به أيضاً فى الحوار الثقافى فى المحيط القومى والأفريقى والإسلامى والعالمى. نحن نريد من خلال هذه النافذة أن نخرج بثقافتنا التى حُجبت لسنوات طويلة إلى العالم الخارجى، بعد أن انشغلنا بالهموم الوطنية والآن نعيش حالة انفراج برفع الحصار وتطبيع العلاقات مع دول الجوار، ونهيئ أنفسنا بالانتماء الأفريقى مكاناً والعربى حضارة، ولدينا خطة لينفذ منها السودان عربياً وأفريقياً.
وأضاف عبد الباسط، لابد أن نجعل المجتمع يتحرك ثقافياً متجاوزاً الدولة وإمكاناتها، وهذا يُعطى حرية للإبداع وينعكس على الصحافة، فلدينا مؤسسات مجتمع مدنى كثيرة يمكنها فعل ذلك، فالخرطوم بها الآن 9 ملتقيات أسبوعية، ولها مراكز وإدارة خاصة بهذه المؤسسات المدنية، فى الوقت الذى لا تملك الحكومة من بينها مركزاً واحداً، ولدينا مسارح تملكها الدولة مثل المسرح القومى، ومسارح أخرى يملكها القطاع الخاص، فنحن نشجع الاستثمار فى المجال الثقافى مثل دور النشر، والمطابع، والسينما، والمسارح.
عقبات اقتصادية
وأشار عبد الباسط إلى أن هناك عقبات أخرى تمنع إنتاجا ثقافيا متميزا فى السودان، بجانب العقبات السابقة (الحروب، المواعين الثقافية)، ومن أهم هذه العقبات ـ بحسب ما صرح عبد الباسط ـ حالة الضعف الاقتصادى التى صاحبت الحرب، وقال: إن المشكلة قد تتجاوز النشر مع التوزيع، نستطيع أن ننشر ولا نستطيع أن نوزع، لأن القدرة الشرائية للمواطن ما زالت مشغولة بهموم العيش أكثر من هموم الإبداع، بالإضافة إلى الجمارك والرسوم التى كانت تُفرض على معدات الطباعة وأجهزة الكمبيوتر ومعدات السينما والأفلام.
وعن عدم وجود دور عرض فى السودان، قال عبد الباسط توقف العمل السينمائى فى السودان منذ فترات طويلة، وكانت هناك تجارب للعمل السينمائى من قبل، وكانت تأخذ الطابع الوثائقى للأفلام، ونحن الآن بصدد تحريك العملية السينمائية، فهناك أكثر من 5 أفلام للمنتج مصطفى إبراهيم، وبعض الأفلام عن بعض القبائل، مضيفاً أن الحركة السينمائية تحتاج إلى تمويل ضخم من كاميرات ومعدات وأجهزة، مما أدى إلى إعاقة انتشارها فى السابق بالسودان.
وعن مدى التعاون بين مصر والسودان فى المجال الثقافى، قال المسئول السودانى: بيننا ومصر اتفاقية للتعاون الثقافى تتضمن الاستفادة من الخبرة المصرية فى مجال السينما والإعلام، ولدينا معرض للكتاب المصرى، ونشارك فى الملتقيات العامة فى مصر، ونشارك بفرق الفنون الشعبية فى احتفالات الأوبرا برمضان، ونشارك فى كل الملتقيات المشتركة بيننا.
السلم الخماسى
وللتعرف عن ملامح الفن السودانى عن قرب، كان لقاؤنا مع البروفسير أحمد عبد العال عميد كلية الدراما والمسرح بالسودان، والذى قال لنا إن الموسيقى فى السودان تميزت بما يسمى بالسلم الخماسى، وهو سلم معروف لدى المتخصصين ونجده ظاهراً فى أوساط السودان، فى شرقه وشماله وغربه، وهناك أيضاً السلم السباعى فى غرب السودان، الذى يربط الغرب ببعض القبائل العربية من جنوب الجزيرة العربية، وتتعامل أحياناً بكلمات عربية لا نجد لها ترجمة فى القواميس، ولهذه القبائل الكثير من العادات الخاصة.
أما الموسيقى فى جنوب السودان لها وضع خاص، فطبيعتها أفريقية نسبة للجوار الإفريقى، وعن وسط البلاد، تلتقى أعراق السودان بكل التقاليد والفنون، لتتوحد فى الشخصية السودانية ما عُرِفت به من بعض السلوك الاجتماعى، بالإضافة إلى وجود التصوف الإسلامى، الذى أحبه السودانيون، فالمتصوفة أهل ذكر، وتأكد هذا التصوف لدى السودانيين، وبدأت خطواته الأولى بفن الغناء بالموسيقى. فبعد مرحلة ما يُعرف بالدوميز وفنون الغناء الشعبى، ظهرت هناك نقلة فنية فيما يُعرف بفن الحقيبة، ويقصد به فن المرحلة التى كتب فيها الشعراء، والتى تشبه الشعر العربى القديم، وتكتب بالفصحى مختلطة باللغة الدارجة، ولكن وقعها بالأذن وقع الشعر العربى، ووصفت بها المرأة بشدة، وتتناول قضايا تتعلق بمرحلة محددة فى حياة المجتمع السودانى، مضيفا أن الحقيبة بدأت بصوت المغنى ومن خلفه الكورس، ثم دخلت الموسيقى بتسجيل الأسطوانات فى مصر. بعد ذلك ظهر ما يُعرف بفن الغناء الحديث فى السودان، وتأكد فى مرحلة ما بعد الاستقلال، وعُرِف به العديد من الفنانين (الكاشف، وعثمان حسين، وحسن عطية) وفيه تفتح الوجدان السودانى لمرحلة جديدة، وتوالت مسيرة تطور الغناء وظهور عمالقة واستفادت هذه المرحلة من التطور الموسيقى العربى والعالمى، وكان العصر الذهبى للغناء السودانى فى مرحلة ما بعد الحقيبة، هى مرحلة المطربين الكاشف، ووردى.
فن المدائح
وحول المدائح وفنونها المنتشرة فى السودان، قال عبد العال: ما زال هذا الفن الكبير يجد مكانه فى حياتنا الثقافية.. فالإذاعة السودانية لا تخلو من بث مدائح للرسول يومياً، وهناك نوع آخر، وهو مدائح "القوم"، وفن أهل الطرق السودانية، فهم يمدحون السادة من شيوخهم لذات المواصفات التى تأدبوا بها من صفات الرسول (صلى الله عليه وسلم).. وفى هذا الفن نجد تأثير الإيقاع واضحا مصحوبا بحركات الأجساد كالذكر.. وتزايد أعداد الشعراء فى مدائح "القوم"، وظهر فى هذه الفترة شعراء ما يعرف بـ (طريق جميلة)، فهذا الشعر به من أسرار الكتابة والمعانى مثل التى نجدها فى شعراء الصوفية القدماء، كابن الفارض.. وفى السودان الآن علامة عميقة على تطور هذه المدائح، فنجد مدائح الشيخ عبد الرحيم البرعى رحمه الله، وكان شيخاً للسودان كله، وهو أحد المبدعين الذين عرفوا كيف يصفوا أبناء مجتمعهم فى الوقت الذى فشل فيه كثيرون.
وقال عبد العال: إن "البرعى" عرف كيف يدخل على مجتمعه بالكلام الطيب، فارتبط به المجتمع السودانى وأحبوه وسمعوا له، لأن أشعاره لها رسالة ووصايا للفرد فى سلوكه ونفسه ودعائه المتصل بالله.. وهذه المدرسة تخرج وسوف يتخرج منها الكثير من أبنائنا. وأشار العال إلى أن هناك فنا آخر اشتهر به السودان، وهو الشعر والذى كتبه أهل السودان منذ زمن بعيد، وسجلوا به رؤاهم وفلسفتهم فى الحياة، ولدينا شعراء كبار أمثال (الفيتورى، خالد فتح الرحمن، مصطفى سند، محيى الدين فارس) فهؤلاء ساهموا فى بناء القصيدة العربية الحديثة، فالسودان له حظ وافر فى الشعر أكثر من الغناء والموسيقى، فعندما جاء إلينا الشاعر نزار قبانى اندهش كثيراً لحب أهل السودان للشعر، ولدينا أيضاً الطيب صالح وآخرون.
مدارس تشكيلية خاصة
وعن الفن التشكيلى قال البروفسير أحمد عبد العال، عرفت بلادنا التشكيل والمعمار منذ قديم العصور.. فالآثار تشهد بهذا فى الرسم والنحت، وعندنا كلية للفنون فى السودان أنشأت عام 1946 وتشبه مثيلاتها فى العالم العربى، وكلهم نشأوا على غرار الكليات الغربية وبُعث الكثير للغرب ليدرسوا فى كلياتهم، وما زالت تقيد الصورة الحقيقية لتراثنا، وذلك لتأثرنا بالفنون الغربية. وهناك محاولات عديدة لنا وظهر ما يُعرف بمدرسة الخرطوم، وهى ليست كالمدارس الغربية.. ففيها جهد مشترك لنقل الحياة السودانية بتحديد بعض الملامح فى الرسوم، وما زال ينقصها الوضوح الفكرى التام. مضيفا وهناك أيضاً مدرسة الوعى، وتنادى بالتوحيد مرة أخرى فى تربية المسلم، ومدرسة الواحد، وتؤكد أنه لا فن بغير مدلول حضارى، حيث تلاقى الثقافة العربية الإسلامية بالثقافة الأفريقية، وهو لقاء عبقرى يدل على أنه لا سبيل لإبداع جديد متميز، دون الرجوع إلى المنابع الحضارية الأصيلة.. فليس لدينا فن دينى، وفننا كمسلمين يضم نظرة الإسلام ونظرة المسلم بما حوله من أحداث ووقائع، فالمسلمون فى هذه المدرسة هم أهل الحضارة العالمية، ونحن مكلفون بذلك، فلابد أن نجسد هذه المعانى ونأمل أن يلتف كثير من الفنانين حولها.
وعن الدراما والمسرح قال عبد العال: إنهما من الفنون المستجدة فى السودان، فظهر كتاب يكتبون المسرح الشعرى، ويغطى تاريخ السودان، ويؤكد بعض القيم الاجتماعية، والآن هناك أزمة فى الدراما السودانية، وهو ما يعود إلى قلى كتابة النصوص وضعف الإمكانات.
مشكلة إعلامية
وفى هذا الصدد أضاف على مهدى الأمين العام الأسبق لاتحاد الفنانين العرب قائلاً: إن مسئولية غياب الفن السودانى فى مصر مسئولية إعلامية ومسئولية المجتمع المدنى، هذا بالرغم من تأثر الغناء المصرى بالغناء السودانى، فهناك المطرب محمد منير الذى أخذ وتأثر بعمق الغناء السودانى، فقد أخذ أغنيات لوردى وقصيدة لمحجوب شريف وهو شاعر سودانى. وقال مهدى كل بيت سودانى يعرف الفنانين المصريين، وهذا يرجع للإعلام، فلدينا متميزون فى شتى أنواع الفنون، ولكن الإعلام هو الذى يُظهر هذا، فكيف عرف المصريون الطيب صالح؟ فقد عرفوه من كتابة مقال للراحل الكبير رجاء النقاش.
وأضاف مهدى قدمنا مسرحية "نقابة المنتحرين" بالقاهرة باللهجة السودانية ونجحت، فليس هناك ما يمنع انتشارنا فى مصر، فنحن لا نبرئ أنفسنا من مسئولية عدم الانتشار، بالإضافة إلى القطيعة السياسية بين القاهرة والخرطوم التى تركت أثرا على التواصل الثقافى، ومع انفراج العلاقات الآن هناك تعاون كبير فى شتى المجالات وخاصة فى المجال الثقافى، وهناك الآن فكرة للمخرج السودانى المعروف بمصر سعيد حامد لإقامة سينما فى الخرطوم، يخطط لها الآن، فالمجال الآن مفتوح للاستثمار والمستثمرين فى بناء المسارح والسينما فى السودان، سواء أكان استثمارا محليا أو خارجيا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة