ثلاثة عشر قتيلا وعشرات الجرحى فى مذبحة الكلافين أثبتت أن شيئا ما يحدث فى بلادنا منذ فترة طويلة لا ندرك أبعاده، رغم أننا جميعا نقرأ ملامحه وبشكل يومى فى مشاهد تبدو من المبالغة بما لا يجعلنا نصدقها سينمائياً، فمن منا لم ير "سنجة" بحجم السيف العربى القديم تطول أبرياء فى مناطق عدة وعلى مرأى ومسمع من المارة، ووسط صرخات الهاربين، والغريب أن بعض المناطق الشعبية يتكرر فيها هذا المشهد الهزلى بصورة تكاد تكون يومية بنفس الأبطال، مما يعنى أن يد العدالة لا تطول إلا البسطاء.
على أن قوات الشرطة التى وصلت إلى مسرح المذبحة المروعة بعد أربع ساعات، لم يكن منوطاً بها وقف المذبحة بقدر تكليفها بجمع الضحايا ودفنهم ليلا، تحت حراسة مشددة، خوفا على الجثث، أى أن الأمن استطاع بكفاءة نادرة توصيل الضحايا إلى المقابر فى خدمة جديدة تتطابق مع المفاهيم الجديدة لمطاعم " التيك اواى " فى توصيل الطلبات للمنازل.
وأحسب أن قوات الأمن لم تدرك أن قانون الإرهاب إنما تم إعداده بدعوى منع الجريمة قبل وقوعها، على أن الاختلاف هنا حول مفهوم الجريمة، فكل عمل إرهابى أو مفزع يتخذ ضد العامة لا يعد إرهابا وإنما تقلص مفهوم الإرهاب على منع كل ما هو ضد الحكومة، لدرجة أن الحاسة الأمنية تتوصل إلى مواعيد المظاهرات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية قبل أن يعرفها منظموها، وتحول الشرطة دون حدوثها باعتبارها جرائم لا يمكن السكوت عنها.
أما ذبح المواطنين فى الشارع، فإنه سلوك طبيعى لا تتحرك الأجهزة نحوه إلا بعد أن تخمد نيران المعارك وتختفى الأسلحة ويهرب الجناة . وقد تلاشى مفهوم الأمن الاجتماعى خلف جدران الأمن السياسى، حيث يتم إفراغ الأقسام والمراكز من جنودها وضباطها لأن فلانا ابن فلان المسئول الحكومى الكبير قد يزور ابنته فى حى غير الذى يسكن فيه، وتقتضى الضرورة الأمنية حمايتهم من العامة والسوقة والدهماء من أمثالى، وتبدو الأحياء خالية من الوجود الأمنى الفعلى، إضافة إلى أن حالة الزواج السرى بين البلطجية والحكومة قد فرضت على الطرف الثانى حماية الأول باعتباره صاحب "خدمات" على الطرف الثانى، حيث يلجأ إليه فى المهام الصعبة لمواجهة التيارات الظلامية والنورانية معا.
ووسط هذه الروائح الكريهة، لا يمكن إغفال الظروف الصعبة والمناخ المعقد والبيئة الفاسدة التى يعمل فيها ضباط وجنود الشرطة، حيث يعمل الواحد منهم لأكثر من اثنتى عشرة ساعة يوميا فى ضجيج بلا طحين لحماية الأقلية التى لا تتوقف عند رئيس مدينة، بل تهبط إلى ما هو أكثر دونية من ذلك.
وحتى نكون منصفين، فإنه يجب أن نعترف أن الجهاز الأمنى قدم من الشهداء الأبرار كثيرين، نحسبهم أحياء عند ربهم يرزقون، غير أن الرسالة حادت عن طريقها القويم وتحولت شيئا فشيء إلى ما يمكن اعتباره اختزالاً مبتوراً للرسالة الأمنية، فلم يعد الناس يشعرون بمفاهيم الانتماء والوطن والدولة بعد أن تحولوا جميعا إلى ضحايا يدفنون ليلا تحت الحراسة المشددة. وكما علمتنى أمى أن "للحيطان آذان"، فإننى اعترف بالمهارات غير المحدودة لأجهزتنا الأمنية، حيث لم يعد للحيطان آذان، بل أصبح لها عيون وتجيد كتابة التقارير، إذ لا يمكن أن يتصور إنسان أن الحكومة لا تعرفه وتعرف أبناءه الذين جاءوا إلى الدنيا والآخرين الذين مازالوا فى علم الغيب، أو كما يقول فناننا الكبير عادل إمام "هو إحنا نعرف أكتر من الحكومة"، فى عبارة موحية أكثر مما تعبر عنه أفكار الكتاب ورؤى المفكرين "المجعلصة".
والسؤال: ألم تكن الدولة ممثلة فى جهازها الأمنى على دراية كاملة بما يخطط له مجرمو القرية المنكوبة فى القليوبية؟ والإجابة ببساطة: أن الحكومة تعرف "دبة النملة" ولا يخفى عليها خافية، ولكن المسألة تتعلق بمواطنين عاديين لا مسئولين كباراً، وهؤلاء المواطنون لدينا منهم فائض بشرى نصدر منه إلى البحار والمحيطات ما يسد جوع الحيتان والقروش الجائعة، ونصدر منها إلى الكفيل الخليجى ما يغذى إحساسه بالعظمة والكبرياء وينمى داخله الإحساس بملكية الإماء والعبيد، وبالتالى فإن إزهاق أرواحهم البريئة على أرض مصر هو شرف ما بعده شرف، يفرض على أهاليهم تقديم "التشكرات لحظرة موالينا السلاطين".
ولأن الموت قضاء وقدر، فإن الدولة غير منوط بها منع وقوع القدر، وإلا اتهمها التيار الظلامى المنتشر فى بقاع الوطن بالوقوف ضد نواميس الكون وضد رغبة الإله الواحد فى اختيار التوقيت، حيث يدرككم الموت حتى لو كنتم فى بروج محمية بقوات البوليس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة