كنت فى لقاء الأسبوع الماضى مع عدد من الشباب فى ندوة عقدها "اتحاد الشباب الليبرالى" للحديث عن الأقليات فى النظام الديمقراطى. لم تكن مفاجأة بالنسبة لى، أن أجد بين هؤلاء الشباب من يرى العالم كله بمنظور مصرى، يعتقد أن الكون كله مسخر للتآمر، وخداع العرب عامة، والمصريين خاصة.
هؤلاء الشباب هم ضحايا حالة الوهم التى نعيشها منذ سنوات بعيدة. أعذرهم ولا أنتقدهم، فهم ضحايا وليس جناة. أحد هؤلاء الشباب ذهب إلى أن هناك لعبة كبرى تجرى فصولها الآن بين الحزبين الديمقراطى والجمهورى فى الولايات المتحدة، لإحداث "فرقعة" بترشيح أوباما الذى سوف يخسر المنافسة الانتخابية لأنه "أسود" وليس "أبيض"، فضلا عن أنه ليس "بروتستانتى" أصيلا، نظرا لأن الإسلام له تواجد فى جذوره العائلية.
لن أتحدث عن أن هذا النمط من التفكير مسكون بالمؤامرة، لأن ذلك الحديث لا يعين على فهم دقيق للموقف. بالطبع يشير "ألف باء" سياسة إلى أن الأحزاب فى الدول الديمقراطية، خاصة على مواقع الرئاسة، لا تتنافس فى إطار تمثيلية محسومة سلفا، والتفكير بذهنية "الاتفاقات" الليلية لحسم النتائج الانتخابية هو تفكير مصرى بحت، لا تعرفه بالتأكيد هذه الدول. كون الحزب الديمقراطى رشح أوباما، فهو ينافس به للفوز الحقيقى، وليس من أجل إحداث "فرقعة" كونية، بالتأكيد هو فى غنى عنها، وليس من مصلحته أن يضحى بملايين الدولارات، والسمعة، وشبكات العلاقات، حتى يحدث فرقعة يضحك بها على العرب والمصريين.
هذا النمط من التفكير لا يستدعى كل هذا الجدل، ليس دفاعا عن تنافسية الانتخابات الأمريكية، ولكن تأسفا على الإدراك المشوه لمفهوم الديمقراطية لدى قطاعات من المجتمع المصرى. أليس هؤلاء الشباب هم صناعة ماكينة إعلامية زيّفت وعيهم ضد مفهوم السياسة ذاته؟. منذ أكثر من نصف قرن، وبالتحديد فى أعقاب ثورة 1952م، حكمت البلاد نخب سياسية تكره السياسة، وتقف منها موقف النقيض. وانتهى الأمر بالمجتمع المصرى إلى حالة من البيروقراطية الجامدة، التى لا تعرف حياة أو ديناميكية، كل تصوراته عن السياسة سلبية. وما يجرى من تفاعلات سياسية فى المجتمع كفيل بأن يرسخ هذا التفكير، من شراء الأصوات، والفساد، والصفقات السياسية، وتشويه العمل العام، وتقويض الحياة الحزبية، وأخيرا حالة من الحروب الكلامية بين القوى السياسية، والشخصيات السياسية، لا هدف من ورائها سوى الإبقاء على الفهم المنقوص والمشوه للسياسة.
الحياة السياسية كلها تمثيلية، هكذا يتصور هذا الشاب، وهو غير مخطئ لأنه بالفعل يعيش تمثيلية سياسية بلا معنى. لا نعرف فيها الحدود الفاصلة بين القوى السياسية، أو اختلاف مواقعها فى الحياة، ولا نعرف تحديدا من ينافس من؟ ومن يعارض من؟ وما هى المسافات بين أحزاب سياسية معارضة اختارت أن يكون لها أخ أكبر هو الحزب الوطنى، بحيث تلعب هى دور الشريك الصغير لإضفاء واجهة ديمقراطية شكلية.
حتى نشجع هذا المجتمع على المشاركة، والإيمان بالديمقراطية، يجب أن نبدأ مبكرا جدا، من المدرسة، يتعلم الطفل أن الديمقراطية أسلوب رشيد لإدارة السلطة، أيا كانت، وليست مجرد تمثيلية، أو استكمال لشكل معين. ويجب أيضا- كإعلاميين- أن نتوقف عن تشويه الديمقراطية بافتعال المعارك الوهمية بين القوى السياسية، والسياسيين، ليس لسبب سوى استنبات حيوية سياسية وهمية لا وجود لها على أرض الواقع. الحيوية المصطنعة لا تصنع ديمقراطية. المشكلة- بلغة الماركسيين- فى تزييف الوعى، وليست فى غياب الوعى. الغائب قد يأتى، ولكن قد تستغرق عملية اقتلاع الزيف سنوات وسنوات، ولا عزاء للديمقراطية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة