تفخر الحكومة المصرية بنجاح برنامجها الإصلاحى الاقتصادى، خاصة فى تمكين الاقتصاد الوطنى المصرى من الانضمام والاندماج بسهولة فى الاقتصاد العالمى وتأثره به وتأثيره عليه، على الرغم من أن رياح السلبيات هى التى تصيبنا فقط حتى الآن ولم نلحظ أى إيجابيات بعد.. وطالما ارتضت الحكومة أن تدخل اللعبة العالمية، لابد من التعرف الحقيقى على أدواتها، وأن تتمكن من استخدام تلك الأدوات بصورة إيجابية وفعالة وتحاول أيضا أن تحتفظ بحوائط صد تمتص الصدمات الكبرى وتخفف من تأثيراتها السلبية على المواطن المصرى، الذى يعتبر حكومة بلده وكيلة عنه فى إدارة تلك اللعبة.
وأول تلك الأدوات، لابد من وجود جهاز قوى يتبع وزارة التجارة يتابع التطورات التجارية العالمية ويكون لديه "أجهزة استشعار عن بعد" للتعرف على الأزمات قبل وقوعها، بل والتنبؤ بها ودراسة كافة الاحتمالات على الاقتصاد المصرى، وهذه الأجهزة موجودة فى كافة دول العالم وليست بدعة.. ففى الصين على سبيل المثال وقبل حدوث أزمة الغذاء العالمية الحالية وارتفاع أسعار الحبوب والسلع الزراعية، توقعت الأجهزة الصينية ذلك قبل حدوثه بفترة طويلة، وذلك بناء على الدراسات والمعلومات التى وردت إليها، خاصة بعدما رصدت تلك الأجهزة قيام دول مثل البرازيل باستخراج الوقود الحيوى عن طريق استخدام المحاصيل الزراعية من الذرة، فما كان من إدارة الأزمات الصينية التى تدارست وبسرعة كافة الاحتمالات التى من الممكن أن تؤثر على بلادها نتيجة مثل هذا التطور فى ظل تزايد الاستهلاك الصينى من المنتجات الزراعية والحيوانية وكذلك الصناعات الغذائية، أن أوصت "وتوصياتها تؤخذ بجدية تامة" بضرورة تشجيع المستوردين والتسهيل عليهم لاستيراد كميات كبيرة من المنتجات الزراعية والحبوب، وكان أول قرار اتخذته الحكومة الصينية (كل ذلك قبل وقوع الأزمة) أن ألغت الرسوم الجمركية على الواردات من السلع الغذائية ووجهت جزءا كبيرا من الاستثمارات إلى الزراعة، وشجعت المستثمرين وفقا لاستراتيجية محددة لزراعة المزيد من الحبوب والمنتجات الزراعية المهمة، وبالفعل تكاد تكون الصين الدولة الأقل تأثرا بالأزمة الحالية على الرغم من زيادة حجم استهلاكها الآن من المنتجات الزراعية والحيوانية بصورة كبيرة نتيجة ارتفاع مستوى معيشة أفرادها الآن.
فى المقابل نرى الحكومة المصرية لم تتخذ أى إجراءات لمواجهه تلك الأزمة، على الرغم من علمها جيدا باحتمالية وقوعها، وذلك لأنها كانت فى حاجة إلى مزيد من الدراسة المتأنية والمستفيضة والمتمحصة والعاقلة والهادئة، ودون استعجال لأن فى العجلة الندامة وفى التأنى السلامة، وبالفعل صدر القرار الجمهورى بخفض الرسوم الجمركية على المنتجات الزراعية والصناعات الغذائية، نفس القرار الذى اتخذته الصين، ولكن الفترة الزمنية بين القرارين "عام ونصف "، ومن السهل التوقع بمدى حجم تأثير الأزمة على كل من مصر والصين.
والسؤال الذى يفرض نفسه وبقوة: هل لدينا إدارة أزمات حقيقية بالمفهوم العلمى الصحيح فى أجهزة الدولة المختلفة تبحث وتدرس وتتوقع الأزمات قبل حدوثها، ولديها من القدرة والمرونة أن تتعامل معها فى حالة حدوثها؟ وهل فكرت وزارة التجارة والصناعة إنشاء مثل هذه الإدارة بحيث تضم علماء وخبراء وباحثين ومؤهلين لاتخاذ القرار السليم فى التوقيت السليم؟ وهل لدينا الآن أجهزة للاستشعار عن بعد بالأزمات العالمية التى قد تحدث فى أى بقعة فى العالم بحيث نستطيع أن نجهز الإجراءات الحمائية لمواجهتها قبل أن تصل إلينا؟ وبهذه المناسبة هل تعرف الأجهزة المصرية أن العالم مقبل على أزمة حقيقية فى اللحوم والدواجن وسوف ترتفع أسعارها بصورة جنونية نتيجة الارتفاع الكبير المتوقع فى أسعار العلف، هل لو كانت تعرف تلك المعلومة، هل أعدت العدة لمواجهتها أم ستنتظر عندما تأتى إلينا ويتم حلها على المهل وبدون استعجال؟
نحتاج حقيقة إلى إدارة أزمات حقيقية فى كل القطاعات لمختلف الأمور والقضايا، التى أصبحت بالفعل شائكة للغاية وأصبحت هناك مشاكل قد تحدث فى مكان بعيد من العالم وفى قطاع ما، ولكن تأثيرها يأتى سريعا على القطاعات الأخرى ويصيبنا مباشرة فى مصر.. طالما ارتضينا بالانضمام إلى الأسواق العالمية الحرة علينا أن نتعامل بحرفية وبالطرق العلمية مع المتغيرات العالمية، ونكون أكثر قدرة ومرونة على التعامل السريع مع الأزمات التى تحدث ولا ننتظر وقوعها، بل من الأفضل أن نواجهها قبل وصولها إلينا وإذا وصلت بالفعل علينا مواجهتها بشكل مدروس ومنظم دون عشوائية فى اتخاذ القرارات مثلما يحدث الآن، ونحتاج حقيقة الآن إلى فن إدارة الأزمات.