"أنا فرنسى (ومسلم)". تصدر هذا العنوان غلاف مجلة لوموند 2، الملحق الأسبوعى المصاحب لجريدة لوموند الفرنسية، وهو العدد الذى نشرت فيه الصور التى التقطتها المصورة الفرنسية فرانس كيزير لعدد من مسلمى فرنسا. ويعيش فى فرنسا ما بين خمسة وستة ملايين مسلم، من بينهم حوالى اثنين أو ثلاثة ملايين يحملون الجنسية الفرنسية. والواقع يؤكد أن عدد المسلمين بفرنسا يحيط به كثير من علامات الاستفهام، حيث إن الدستور الفرنسى يمنع القيام بأى إحصاءات ذات طابع دينى أو عرقى. وسواء كان إحصاؤهم مسموحا به أو ممنوعا، فإن الأمر المؤكد هو أن هؤلاء المسلمين أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من دولة فرنسا التى تتعدد فيها الثقافات والأقليات الدينية المتنوعة.
ويعتقد البعض بالخطأ فى ظل موجات الإرهاب التى تحاول أوروبا مواجهتها، أن مسلمى فرنسا يعيشون داخل دائرة مغلقة من الصور السلبية، ومنها صورة طائفة مسلمة تعكس رغبتها فى "أسلمه فرنسا"، صورة طائفة متحفظة ترفض العادات المتحررة، ولا تمنح المرأة سوى دور ثانوى، صورة طائفة منغلقة على ذاتها تعيش على هامش المجتمع الفرنسى، صورة طائفة فقيرة تستفيد من مزايا النظام الاجتماعى الفرنسى. والعديد من الصور التى أرادت فرانس كيزير اختبارها بعدسة كاميرتها، أثبتت أن المسلمين يمارسون شعائر دينهم، مثلما يمارس غيرهم المسيحية أو اليهودية.
كاميرا المصورة الشابة التقطت صور العديد من المسلمين فى حياتهم اليومية، وتؤكد أن وضع هؤلاء المواطنين أبعد ما يكون عن فكرة الوضع الهامشى المنعزل عن المجتمع الفرنسى وقيمه، فهم يشاركون بشكل فعال فى الحياة العامة، سواء كانوا فنانين، أطباء، تجار، رياضيين محترفين، أو طلبة. بل إن الجيش أصبح يضم عددا متزايدا من الشباب الذين يعتنقون الإسلام. أما المرأة المحجبة، التى يتم توصيفها عادة بأنها ضحية الإسلام، فهى تلعب دورا فعالا فى المجتمع الفرنسى.
يذكر أن دراسة أجراها باحثون فى مركز الأبحاث السياسية Cevipof فى 2005 على عدد كبير من مواطنين من أصول مغربية وأفريقية، أكدت أن غالبية هؤلاء المواطنين "الجدد" نجحوا فى الاندماج بشكل كبير فى المجتمع الفرنسى، وأن الدين لا يمثل عائقا يؤدى إلى الانعزال عن الحياة العامة، وأن مسلمى فرنسا لا يتعرضون للعديد من الضغوط سواء بسبب التعصب أو التفرقة العنصرية أو معاداة السامية، وغيرها. وتؤكد فرنس كيزير إجمالا أن من قابلتهم من المسلمين الممارسين لدينهم ما هم سوى "فرنسيين مثلهم مثل الآخرين، ويرغبون فى أن يتم معاملتهم على هذا الأساس".
الإسلام وفرنسا
هاجر عدد كبير من المسلمين من شمالى أفريقيا بعد الحرب العالمية الأولى، ووصل عددهم إلى مائة ألف، وتزايد عدد المسلمين بعد الحرب العالمية الثانية. وعندما استقلت الجزائر عن فرنسا، وصل عدد المسلمين حوالى ثلاثمائة ألف مسلم. اليوم يصل عدد المسلمين فى فرنسا إلى 5 ملايين، ويكونون 5% من إجمالى أفراد الشعب.
كما أصبح الإسلام الدين الثانى فى فرنسا، ويأتى أغلب المسلمين من الطبقة العاملة والطلاب ومن المهندسين والأطباء والفنيين، هذا إلى جانب المسلمين الفرنسيين. وهناك مسلمون من البلاد الإسلامية التى استعمرتها فرنسا مثل مالى والسنغال وساحل العاج، ومن البلاد الإسلامية مثل سوريا والعراق وفلسطين، كما يوجد مسلمون أتراك. وينتشر المسلمون فى المدن الفرنسية والريف الفرنسى ويوجد فى فرنسا حوالى ألف مسجد.
هيئات إسلامية كثيرة

يوجد العديد من الجمعيات والهيئات الإسلامية فى فرنسا، ويتجاوز عددها 250 جمعية، ويوجد اتحاد للمنظمات الإسلامية فى فرنسا، ويحرص على فتح المدارس الإسلامية الجديدة وإقامة المخيمات الشبابية وعقد المؤتمرات وإقامة معارض سنوية للكتاب الإسلامى ونشره بعدة لغات. وتوجد الجامعة العامة لمسلمى فرنسا وتأسست سنة 1985.
تعليم إسلامى بجهود فردية
ليست هناك خطة موحدة أو منهج موحد لتعليم أبناء المسلمين فى فرنسا، وإنما جهود فردية تبذل، حيث توجد بعض المدارس الملحقة بالمساجد. وهناك حاجة لفتح مدرسة إسلامية ثانوية بفرنسا. كما توجد الكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية التى تأسست عام 1992، وتضم الكلية قسم أصول الدين وقسم الشريعة الإسلامية وتحتوى على 12 غرفة مكتبة، وقاعتين للمطالعة و9 قاعات للفصول.
ترجمة معانى القرآن الكريم
هناك محاولات عدة لترجمة القران الكريم، ومنها ما قام به قنصل فرنسا فى مصر سنة 1647، و ترجمة أندرو دواير، ثم ترجمة فارى لمعانى القرآن فى 1773، ثم ترجمة كازميرسكى فى 1846. وهناك تراجم حديثة لمعانى القرآن منها ترجمة عميد مسجد باريس. إلا أن هناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر فى هذه التراجم وإصدار ترجمة معتمدة ودقيقة لمعانى القرآن الكريم.
التحديات متعددة والحلول ممكنة

يواجه المسلمون بفرنسا كثيراً من التحديات التى يفرضها عليهم تواجدهم فى دولة غربية تختلف تقاليدها الاجتماعية عما يعتاد عليه المسلمون الشرقيون، ومنها الزواج المختلط لما يترتب عليه من مشاكل، والذى سبب ضياع الجيل الأول من المهاجرين ولا يزال متفشياً، والجهل بقواعد وقيم الإسلام، وتعليم أطفال المسلمين على أساس منهج موحد، وندرة المقابر الإسلامية، واندساس الجمعيات المزيفة والتى تشوه العمل الإسلامى. من ناحية أخرى يعانى المسلمون فى فرنسا تحديات عنصرية، ومنها تركيز البعثات التنصيرية على أبناء الأقلية المسلمة، وما يقوم به اللوبى اليهودى الإعلامى الذى يصور المسلمين بأقبح الصور، وتحديات بعض رجال الإعلام والسياسة الفرنسيين، مثل أعضاء حزب الجبهة الوطنية اليمينى، الذين يهاجمون فيه الإسلام متعمدين.
مظاهر الانتماء للإسلام

شهر رمضان هو الشهر الوحيد الذى يستطيع فيه مسلمو فرنسا إبراز انتمائهم للإسلام بشكل واضح ميسور، وأن يظهروا للمجتمع الفرنسى الطابع الإسلامى. ويتهيأ المسلمون فى فرنسا لاستقبال هذا الشهر المبارك بصيام أيام من رجب وشعبان، إحياء للسُّنة مثل الشرقيين، وتحضيرا للنفس لصوم رمضان. وتقوم الهيئات الإسلامية بواجب التوعية والإرشاد من خلال الخطب والنشرات والحصص الإذاعية التى تسمح بها الإذاعات العربية فى فرنسا. وينظم المسلمون حلقات القرآن والتدريس والوعظ فى المساجد ليلاً ونهارًا يؤمها أبناء الجالية على اختلاف أعمارهم وثقافتهم، وهناك كثرة ساعات البث الدينى من الإذاعات العربية المحلية. وتكثر فى رمضان حفلات الإفطار الجماعى فى المساجد والمراكز الإسلامية وبيوت سكن العمال وطلاب الجامعات. وتجتمع الهيئات الإسلامية فى الليلة الأخيرة من شعبان فى مسجد (باريس المركزى) لإعلان بدء الصوم، كما تجتمع فى آخر رمضان لإعلان هلال شوال والفطر، ولكن الأوضاع السياسية المعروفة تضغط على الجاليات الإسلامية وتدفع بالبعض إلى مخالفة الاتفاق، فإذا ما تم الالتزام ببدء الصوم، فقد يتم الاختلاف فى تحديد يوم العيد، وهو ما أدى إلى تشويه صورة المسلمين، وإظهارهم بمظهر المتفرقين فى الدين والعبادة.

هناك مشكلة أخرى هى تحديد مواقيت الصلاة. ففى فرنسا توقيتان، الأول أعده اتحاد التنظيمات الإسلامية، بينما أعد الثانى المعهد الإسلامى لمسجد باريس، ويؤدى هذا الاختلاف عمليا إلى دخول وقت الفجر حسب توقيت مسجد باريس قبل توقيت الاتحاد بربع الساعة، ويتأخر العشاء (حسب توقيت المسجد) نصف ساعة عن توقيت (الاتحاد)، ويقع كثير من المسلمين بسبب هذا الاختلاف فى ارتباك، فالفجر مرتبط بالإمساك، وصلاة التراويح مرتبطة بالعشاء. ويعانى المسلمون فى كثير من الأحيان من جهل الفرنسيين بحقيقة الصيام ونظرتهم إليه كنوع من أنواع تعذيب الجسد، أو الأعمال الشاقة التى يفرضها المسلم على نفسه، وإن كانوا يعلنون تقديرهم لهذا الجلد والصبر عن الطعام والشراب والتدخين ومقاربة النساء.
والواقع أنه بينما كان الجيل الأول للمسلمين فى فرنسا يخافون من الطرد، الأمر الذى دفعهم إلى إخفاء هويتهم الإسلامية، يشعر شباب المسلمين الفرنسيين الآن باستقرار أكثر من آبائهم. فيمكن للفرنسيين أن يكونوا فرنسيين، مدركين لمواطنتهم، سعيدين فى هذه البلاد، يمارسون الدين والثقافة التى توارثوها عن آبائهم. وبشكل عام، يجد المسلمون فى فرنسا سهولة فى الاندماج فى المجتمع الفرنسى عنه فى البلاد الأوربية الأخرى. لكن ما هو هامش الحرية التى يتمتع بها المسلمون فى فرنسا فيما يتعلق بمسألة الاندماج والهوية؟ وكيف يرون الأديان الأخرى؟ وكيف يمارس المسلمون معتقداتهم وشعائرهم فى أوروبا؟ كل هذه الأسئلة طرحها المركز الأمريكى للأبحاث المتخصصة فى شؤون الأديان (بيو سنتر) وأجاب عنها فى تقرير نشر مؤخراً.
مؤشرات هامة يكشفها التقرير

فى البداية يقول التقرير إن اندماج مسلمى فرنسا، والذين ارتفع عددهم إلى أكثر من خمسة ملايين مسلم، يُعد استثناء فى أوروبا أجمعها، ففى بريطانيا نجد أن نسبة 81% من المسلمين يعتقدون أنه من الطبيعى حدوث نزاع حينما تمارس الشعائر الدينية الإسلامية فى مجتمع غربى. ويلفت التقرير إلى أن الصورة فى فرنسا تختلف تماماً، إذ لا يرى 72% من المسلمين فى فرنسا أى تناقض ما بين الإسلام والغرب. وإذا كانت نسبة 46% تضع الإسلام فى المقام الأول قبل كل شيء، فإن نسبة 42% تفكر بالقيم الفرنسية قبل كل شىء. كما أن مسلمى فرنسا هم الأكثر انفتاحاً على الديانات الأخرى، مقارنة بالمسلمين فى إنجلترا وألمانيا وهولندا والبلاد الأوروبية الأخرى. أما فيما يتعلق بالتعليم، فيشير التقرير إلى أن حركة التعليم فى فرنسا تشهد تباطؤاً يعرقل حركة اندماج المجتمعات المسلمة فى فرنسا بشكل واضح، خاصة مع وصول مهاجرين جدد ممن يحتاجون إلى الكثير من الوقت حتى يندمجوا فى المجتمع.
وقال نيكولا ساركوزى الذى كان وقت صدور التقرير وزيراً للداخلية والمرشح الأقوى للانتخابات الرئاسية التالية، إن أكثر من نصف المؤسسات الإسلامية فى فرنسا البالغ عددها 2000 مؤسسة تمارس تعاليم الإسلام كما يُمارس فى البلاد الإسلامية والعربية تماماً، وغالباً ما يتردد عليها مغاربة وجزائريون وأتراك. من جهته، يشير مدير شئون الأديان فى وزارة الداخلية، إلى أن السنوات الأخيرة شهدت ثورة فى تدين المسلمين بشكل جماعى فى فرنسا. أما فيما يخص الخلفيات السياسية، فقد لفت التقرير النظر إلى أن ضعف اندماج المسلمين فى المجتمعات الأوروبية غالباً ما يتم إرجاعه إلى مواقف الحكومات منهم، أو لتبنيها سياسة الحرب على الإرهاب، والتى غالباً ما تضع المسلمين فى قائمة المستهدفين، ومن أبرز هذه المجتمعات: الجالية الإسلامية فى بريطانيا والتى تعانى من الاضطهاد بسبب سياسة رئيس الوزراء المساندة للولايات المتحدة فى حربها على الإرهاب. أما فى فرنسا، فإن التقرير يعتبر أن الوضع مختلف. ويختتم التقرير بالإشارة إلى أن الفترة الأخيرة شهدت إقبال الشباب الفرنسى المسلم على المساجد وممارسة الدعوة الإسلامية، خاصة مع انتشار العولمة والانحدار الثقافى والاجتماعى.
لمعلوماتك..
◄ يبلغ عدد المسلمين فى فرنسا أكثر من 5 ملايين نسمة، يشكلون 10% من السكان ينحدرون من 53 دولة، ويتحدثون 21 لغة مختلفة إلى جانب الفرنسية، ويحتل الجزائريون أغلبية كبيرة من مسلمى فرنسا.
◄ تشير الإحصاءات إلى أنه من جملة خمسة ملايين مسلم فى فرنسا، هناك حوالى مليونين من المولودين بفرنسا.
◄ البقية مهاجرون جاؤوا من بلدان إسلامية وعربية متعددة.
◄ بشكل عام، يمثل الجزائريون أغلبية الجالية المسلمة بفرنسا بتعداد يقدر بـ800 ألف نسمة، يليهم المغاربة 600 ألف، ثم التونسيون 500 ألف، والأتراك 200 ألف، ثم يأتى ترتيب الأفارقة جنوب الصحراء واللبنانيين المسلمين.
◄ لا يمثل الفرنسيون المسلمون وحدة قومية ولا لغوية، وهو ما يفسر وجود حوالى 2000 جمعية إسلامية مختلفة الجذور الثقافية والمذهبية والأصول الجغرافية.
◄ يعد مسجد باريس تاريخياً من أقدم المؤسسات الإسلامية الممثلة للمسلمين فى فرنسا، إذ تأسس عام 1926، وارتبط منذ بدايته بالجالية الجزائرية بفرنسا، ويأتى تمويله من الجزائر، ويشرف عميد المسجد حالياً الشيخ دليل أبو بكر على حوالى سبعين مسجداً آخر.
◄ تتكون الفيدرالية الوطنية لمسلمى فرنسا أساساً من المهاجرين المغاربة، وتتلقى دعماً مالياً من ملك المغرب، وتدير بعض المساجد فى ضواحى باريس وشرق فرنسا.
◄ تتكون جماعة الدعوة والتبليغ من المهاجرين الأوائل الذين هاجروا فى عام 1968، ويتركز نشاطها حالياً فى الدائرة الحادية عشرة من باريس وخاصة فى منطقة "بالفيل".
◄ تتبع لجنة تنسيق المسلمين الأتراك فى فرنسا لإدارة المساجد بوزارة الشئون الدينية التركية، وتدير 150 مسجداً، وأيديولوجياً تعتبر من طائفة (الميلى قروش)التركية الصوفية.
◄ يمثل الاتحاد الفرنسى للجمعيات الإسلامية فى أفريقيا وجزر القمر وجزر الأنتى جالية مهمة عددياً، ولكنها غير منظمة، باستثناء بعض الجمعيات التابعة لها فإنها لا تسيطر على مساجد مهمة.
◄ تشير التوقعات إلى أن المسلمين فى فرنسا سيتضاعفون ثلاث مرات حتى عام 2020، ليزيد عددهم عن 20 مليون نسمة بسبب نسبة الخصوبة والمواليد العالية بينهم، واستمرار تدفق المهاجرين المسلمين إلى فرنسا، ودخول أعداد غير قليلة من الفرنسيين فى الإسلام (يزيد عدد المسلمين من أصل فرنسى عن 100 ألف).