بداية، هناك محاولات من بعض قادة الشيوخ الذين لا يدركون حتى الدين، الذين يزعمون أنهم حملة لوائه، فيمتنعون عن الاجتهاد فيه.. فقد قضى بعض من قادة هؤلاء الشيوخ على المجتمع بالتأخر ... لأنهم يحاولون عبثاً حل معضلات المجتمع الحديث، انطلاقاً ممن يحفظون من حلول لمشاكل حدثت فى عصور مختلفة، فالتصور بأن حلول مشاكل محددة صالحة لكل المساءل فى كل عصر، لهو العجز عن إدراك كنة الحياة التى هى حركة متصاعدة، تنجم عنها مشاكلها المعقدة والمتلونة بلون المكان والزمان ... نعم لقد حافظ بعض الشيوخ على مظهر لائق- يميزهم عن بقية الناس ليضمن لهم الرهبة فى نفوس العامة من الناس، الذين يمزجون بينهم وبين الدين ويتحقق ذلك- وقد تحقق فى فترات طويلة- بفعل الجهل المتفشى، وتم الانتفاع بالدين وتوظيفه من أجل مصالح بعينها ...
وهناك بعض الظلاميين الذين استهزأوا بالعقل، مثلما قال سيد قطب- مثلاً- أحد منظرى الإخوان إن العقل من الأشياء غير الموجودة أو غير المضبوطة .. أى أنه مغرور يطمح للحرية التى تتحول إلى فوضى وبلبلة فكرية وتجاوز لحدود الصواب ... هكذا يسخرون من العقل والابتكار، الذى حث عليه الإسلام كدين سمح، يطلق الطاقات من أجل تحسين حياة البشر وسعادتهم وليس شقائهم واختزال العالم فى أفكار لبعض الأئمة أو الشيوخ ... فلا إمام سوى العقل.. ذلك النور الذى يميز الإنسان على كافة الكائنات والذى سبق كل النظريات وكل الاعتقادات وكل الديانات ... هذا العقل الذى هو بمثابة المنارة الوحيدة التى تضىء ظلمات الحياة بكل تفاصيلها.. ولكن وللأسف مازالت هناك طوائف فى الألفية الثالثة وقعت عقوداً بمقتضاها صاروا وكلاء لأفكار وتفسيرات لا تتواءم مع روح العصر ومشاكله ولا مع روح الدين وتساميه وتسامحه ولا مع دور الدولة ككيان واحد ووحيد، لتنظيم علاقات البشر بعضهم ببعض وكذلك علاقاتهم بمؤسسات الدولة.. ولتلقى نظرة على الأمثلة التالية ...
عندما حاول الدكتور محمود حمدى زقزوق أن يخترق خرسانات الفتوجية القدامى والجدد والأئمة الأقدمين والمحدثين وأعضاء البرلمان المنتخبين والمعينين، عبر قراره بتوحيد الآذان، تفجرت هذه الخرسانات فى وجهه ووجه كل من سانده وآمن بالفكرة الوجيهة لتوحيد الآذان، تفادياً للتلوث السمعى الذى يحيط بالمحروسة من كل جانب وصوب من خلال أصوات ما أنزل الله بها من سلطان، وتاهت الفكرة وألغيت بعدما صوت أعضاء البرلمان- الموقر- بعدم شرعيتها ... وثار عليه أيضاً هؤلاء الفتوجية عندما دافع عن الفتوى الخاصة، بشأن شهادة المرأة وتصحيح المفاهيم المغلوطة حول هذه القضية ...
وها هو الآن يحاول اختراق هذه الخرسانات البائدة من خلال قراره بشأن خطبة الجمعة، والتى حددها بمدة لا تزيد على عشرين دقيقة، تفادياً للملل والتكرار والسطحية، ولكنه يواجه بأئمة المساجد الرافضين لذلك القرار على اعتبار أنه لا يمكن تحديد المدة بقرار وزارى مدعين أن كل إمام له الحرية فى تقدير المدة التى يستطيع خلالها توصيل فكرته للمصلين.. "ولنلاحظ مصطلح فكرته" وهذا يجعلنا نعتقد أن هناك ما يسمى "بلوبى" الجمود الدينى الذين يقفون كحائط صد أمام أى تنوير وإبداع لروح النص القرآنى الكريم وسُنة رسوله الكريم، وأنهم احتكروا صكوك التفسيرات وعقود التوكيلات من رب العالمين لصالح تفسيراتهم هم وقناعاتهم هم وإسلامهم هم.. متخطين أى إبداع أو تنوير أو إطلاق طاقات النور فى ظلمات تفسيراتهم العتيقة .. ولكن يبدو أن أية محاولات للخروج من هذا النفق المظلم مصيرها السقوط المدوى، أمام الأحجار الخرسانية لهذا "اللوبى" ...
هذا اللوبى الذى انقض على كل ما هو سياسى ومدنى بفتاواه ... فها هى جبهة علماء الأزهر تفتى بأن الذين يحتكرون الحديد يرتكبون أعظم الكبائر.. وكأن الاحتكار فقط للحديد، أفليس هناك احتكار للدين والإسلام من مجموعات متباينة قامت بتفصيل تفسيرات الدين على أهوائهم ومنطقهم .. وها هم يصدرون فتوى أخرى بتحريم تصدير الغاز لإسرائيل، وكأن إسرائيل تقوم باستيراد الغاز فقط ولا يوجد عشرات الآلاف من المصريين يعملون هناك هرباً من الفقر والبطالة.. ولم يستطع أحد منهم معرفة الأسباب التى أدت لهجرة شبابنا إلى هناك... إنهم يستبدلون دور الدولة ومؤسساتها والانقضاض عليها وإصدار فتاوى لذوى الذهنيات البسيطة الذين لا يملكون شيئاً سوى الرضوخ لهذه الفتاوى، انطلاقاً من مآسيهم الاجتماعية والاقتصادية الراهنة ...
وليت الأمر يتوقف على ذلك.. فهذا اللوبى "اللعين" راح حتى يمارس سطوته الكهنونية ويحرم الناس من أبسط حقوقهم، وهى الاستمتاع بالفنون المختلفة التى تنمى الذوق الجمالى والقيم الإنسانية.. فها هو الدكتور مصطفى الشكعة، عضو مجمع البحوث الإسلامية يفتى أن الفنان عادل إمام ارتكب إثماً بارتدائه للزى الكهنوتى المسيحى فى فيلم حسن ومرقص، حيث اعتبر أن الإسلام يحرم الكهنوت وبالتالى من يرتدى الزى الكهنوتى يتحمل مسئولية ذلك أمام الله، باعتباره ارتكب إثماً (نهضة مصر 28/6/2008م) ... نعم... لقد تحالف لوبى الجمود الفكرى والعقائدى، مع لوبى احتكار الحقيقة والدين.. مع لوبى احتكار الحديد ولوبى احتكار الفنون ولوبى احتكار الوطنية ... تحالفت قوى الظلام لإطفاء أى شعاع يخترق ظلمات جدران المعابد التى شيدوها بنصوص حرفية.. وتفسيرات جاهلية.. تحالفت أئمة الأفكار البائدة مع الفتوجية الجدد.. تحالفت شياطين الإنس من كل حدب وصوب واستجمعوا وساوسهم وبثوها فى فضاء الإبداع والتقدم.. والنتيجة ليست بما هو حادث فحسب وإنما بما هو آتٍٍ.