د.عبد الوهاب المسيرى أستاذ الأدب الإنجليزى الذى استهوته الدراسات اليهودية والصهيونية، فأصبح رائد دراسات اليهود والحركة الصهيونية فى العالم العربى. وقد أدرك أن مواجهة هذه الأساطير التى تجمع بين الدين والسياسة فى المشروع الصهيونى، لن تتم إلا بالدراسات العلمية ونشر الوعى القائم على الحقائق وتعرية الأكاذيب، فعمد إلى إصدار موسوعتين إحداهما لليهودية والأخرى للصهيونية، الذى رحل عنا دون أن تصدر. ولقد شرفنى بالمساهمة فى الموسوعة الثانية لدراسة النظام القانونى والقضائى فى إسرائيل، فوجدتها فرصة مواتية لتعرية الأساطير القانونية التى اعتمدها الفكر الصهيونى، الذى سخر كل شئ لخدمة هذا المشروع، فابتدع فى سبيل ذلك كل البدع التى لا يقرها العقل القانونى السليم. ولذلك رأيت أن المشروع الصهيونى، قد جند عدواً ضخما للعقول القانونية لإلباس الباطل ثوب الحق، حتى ينطلى على ضعاف العقول والنفوس، خاصة فى العالم العربى، ولكى يكون ذريعة للفيلق العربى الصهيونى الذى اخترق العقل العربى كالسرطان.
كانت أعمال المسيرى فى مناهضة الصهيونية بالغة الفعالية من خلال الموسوعتين ومؤلفاته القيمة فى هذا الباب، فضلاً عن مقالاته فى الصحف العربية ومحاضراته وحضوره الثقافى الفعال فى جميع المحافل. ولا شك فى أن وفاته خسارة كبرى للمشروع الثقافى والسياسى العربى، ومكسب للمشروع الصهيونى وسدنته فى العالم العربى، خاصة وأنه رحل فى وقت عصيب يشهد تساقط الكتيبة القومية والوطنية التى نرجو أن تكون قد أثمرت فى نفوس أجيال الشباب المتعاقبة.
لقد كانت رسالة المسيرى واضحة، وهى أن فلسطين لأصحابها وأن الصهيونية تتحايل لاغتصابها، وأن حراسة الوعى بهذه الحقيقة البسيطة هو هدف أسمى يتصدى له بكل شجاعة. ويرى المسيرى أن اليهودية دين، والصهيونية حركة سياسية، ولكنهما تداخلا فأصبحت معاداة الصهيونية عداء لليهودية، وهى التهمة التى تسمى معاداة السامية، رغم أن السامية عرق وليست ديناً.
ولم يكن لدى المسيرى شك فى أن المشروع الصهيونى مهما طال به الأجل فهو إلى زوال، وأول تجليات زواله هو انتهاء ثمرته المرة إسرائيل، وأن للزوال أسبابه العديدة، وأن كشف زيف هذا المشروع هو الذى يعجل بزواله. لقد آمن المسيرى بأن مصر هى القلعة المدافعة عن العقل والجسد فى العالم العربى، وأن اختراقها بالطرق التى نعرفها ونأسف لها جميعاً هو أكبر العوامل التى تمد فى عمر المشروع.
لقد جمع المسيرى ببساطة بين الوطنية والقومية، وأزال الفارق المصطنع بين الإسلام والقومية فى العالم العربى، وأبدى غيرته المعهودة على كرامة مصر والمصريين، ووثق بأن إصلاح العقل المصرى وعافية الجسد مما لحق به من أدران هو المقدمة الطبيعية لذبول المشروع الصهيونى، وأن تطويع المشروع لمصر ونظامها لم يزد الشعب المصرى إلا إصراراً على مناهضة هذا المشروع الذى سلب بلادهم دورها، ويتآمر على كل شئ فيها، فالمشروع عنوانه فلسطين ولكنه يستهدف مصر القلب والعقل من الجسد العربى.
إن قيادة المسيرى ـ رغم ظروف مرضه القاسية التى لم تقعده عن المشاركة الفاعلة فى كل المناسبات، للفيلق الوطنى فى حركة كفاية وكل الفاعليات الوطنية الأخرى التى رفع راياتها أبطال سيذكرهم التاريخ أمثال عزيز صدقى ورءوف عباس وغيرهما فى جميع القطاعات، وقيادته للفيلق العلمى القومى المناهض للصهيونية سرطان العصر الحديث ـ لم تنته بوفاته، فالأجساد بالية والأعمال باقية والدعوات تنطلق كصرخة فى وادى ولكنها بتعاقب المخلصين تصبح شامخة كالأوتار، كما يقول الكواكبى فى كتابه "طبائع الاستبداد".
إننى لا أريد الاحتفال بأربعينية المسيرى رثاء وبكاء، فالبقاء لله وحده، ولكننى أريد أن تشكل جمعية لمحبى عبد الوهاب المسيرى تفكر فى ندوة لدراسات أفكاره وتطويرها، ومتابعة نشر الموسوعة الثانية. وإذا كان المسيرى قد لقى عنتا فى حياته من عملاء الصهيونية، فلنذكر المسيرى فى مثواه بين يدى خالقه، كم لقى العظماء من الأنبياء والمرسلين والمصلحين والأئمة الكبار، وكيف سحل أحمد بن حنبل وهو شيخ جاوز السبعين.
وإذا كانت المراثى قد ركزت على أن المسيرى قد مات بعد أن غالبه المرض اللعين وغلبه، فإن قدرته على المقاومة طوال السنوات الماضية ومناعته لم تضعف إلا بعد أن ساءه ما وصل إليه حال الشرفاء والمصلحين على أيدى السوقة وبرابرة العصر، فعز عليه هذا الهوان، فاستسلم فى لحظات اليأس وانحسار الأمل فى مصر التى كان يعرفها، فآثر الراحة إلى جوار خالقه هرباً من بشاعة اليوم الذى رأى فيه مصر الأخرى التى لا نعرفها جميعاً. ولكنى أطمئنه إلى أن مصر التى استعلت على فرعون، لقادرة على أن تستعلى على أقزام هذا العصر، الذين لا يستحقون شرف أن يدفنوا فى جوفها الطاهرة. إن أعمال المسيرى جديرة بأن تجمع وتطبع وتنشر على أوسع نطاق، وأن يرشح لجوائز تفخر بأن تعطى لاسمه فى الساحات المصرية والعربية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة