مصر هبة النيل، النيل هبة مصر ليس هذا هو المهم، المهم أننا أنشأنا أول حضارة مستقرة عرفها العالم، كان عمادها الأول الزراعة، ومنها عرفنا الصبر والاستقرار والبناء والسكن والأمان، وحتى وقت قريب كانت الزراعة هى الركن الحصين والأمين فى مصر، أقصد قبل تفتيت الرقعة الزراعية وتبديدها على يد "شلة" الثورة بعقدها النفسية!
الفلاح الذى كان يزرع محصوله، فيقسمه ثلاثة أجزاء يخزن جزءه الأول ليزرعه فى العام القادم، وبذلك هو ليس فى حاجة إلى سياسيات وزارة الزراعة بشأن استيراد البذور الزراعية من الخارج وبالذات إسرائيل، والجزء الثانى من محصوله يقوم ببيعه أو مبادلته بما يحتاج من منتجات أخرى.
وأما الجزء الثالث من إنتاج محصوله فيطبق فيه نظرية اقتصادية ورثها منذ قديم الأزل وهى نظرية "اللافائض" فأكله كله من زراعته، وما يفيض منه يخصصه لتربية طيوره وحيواناته، والتى يعتمد عليها فى غذائه طوال العام، مخصصاً لها مكاناً فى بيته "الحوش"، ومستخدماً روثها كسماد طبيعى بعد نقلها إلى أرضه، وبذلك هو ليس فى حاجة إلى شركات احتكار الأسمدة الزراعية أو مَن وزارة الزراعة عليه بدعم السماد له، ويقوم أيضاً بتهذيب أشجاره و "تقليمها"، موظفاً ما يخرج منها فى طهى أكله وصناعة خبزه، فليس فى حاجة إلى الوقوف طابوراً طويلاً للحصول على أنبوبة غاز وليس مهموماً بوصولها حتى لعزرائيل!!
الفلاح أصبح حاله الآن مأساوياً فى ظل تآكل الرقعة الزراعية وعدم توزيع أراض جديدة عليه، والتى فاز بها كبار رجال الدولة ورجال الأعمال بحجة الاستثمار الزراعى، فأقصى ما يملكه أى فلاح مابين قيراط أوفدان، بعدما تفتت الأرض أيضاً بالتوارث من الآباء إلى الأبناء، ورغم أن الفلاح هو الوحيد الذى يدفع فاتورة الغلاء والضريبة بكافة أشكالها وهو المنسى أيضاً من علاوة الـ30%، وهم الممثل شكلياً فى البرلمان وبنسبة 50% وليس له نقابة تدافع عنه حتى الآن !
وتطبيقا للمثل القائل "هو بعد حرق الجرن جيرة" ترك الفلاحون أرضهم وعملوا سماسرة للمنتجات الزراعية فى مزارع رجال الأعمال، وهرب البعض منهم للعمل كبوابين فى عمارات القاهرة الشاهقة أو كخفراء "ناطور" فى دول الخليج ليعود محملاً بثقافة غريبة مظهرها الاستهلاك، فلا ينزل بيته إلا إذا تم تجهيزه بجميع الأدوات الكهربائية، ولا تدخل العروس بيت زوجها إلا وفى بيتها "فرن الغاز الصينى أبو أنبوبة"، وأصبحت أقصى أمانيه أن يبنى بيتاً مزيناً بالكتل الأسمنتية والحديدية البعيدة كل البعد عن رسم وجمال القرية، وتميز بيوتها بالأصالة والشموخ؛ وأصبحت الصورة المألوفة حالياً أن تجد البعض رابطاً جاموسته وحماره فى بابه الحديد بعد أن ضاق به بيته الجديد، ورحم المثل القائل "ما تبكوش على اللى خابت زرعته ابكو على اللى مالت ذريته".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة